دراسة مالينوفسكي في جزر التروبرياند

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

دراسة مالينوفسكي في جزر التروبرياند

دراسة مالينوفسكي في جزر التروبرياند:
تقع هذه الجزر همد نهاية الطرف الشرقي لغينيا الجديدة،واستغرقت الدراسة الفترة من 1914م وحتى 1918م ، وتمت في ثلاث رحلات اولها من سبتمبر 1914م إلى مارس 1915م توجه بعدها مالينوفسكي الى استراليا ثم عاد إلى الجزر ليبقى فيها من يونيو 1915م وحتى مايو1916، وكانت المرحلة الاخيرة في أكتوبر1917م واستمرت حتى أكتوبر 1918م ، وفي هذا الصدد يقول مالينوفسكي:(( قام عملي الحقلي في ملانيزيا على اساس ثلاث رحلات ، وكانت المدة الفعلية التي قضيتها بين الاهالي حوالي عامين ونصف العام ،ولكن إذا حسبنا الفترة التي قضيتها بين الرحلات الثلاث في تنظيم المذكرات وكتاباتها وصياغة المشكلات وهضم المادة التي جمعت فإن عملي الحقلي في هذه الحالة سوف يغطي مدة أربع سنوات من أوائل سبتمبر 1914م وحتى نهاية أكتوبر 1918م ،وأنا أريد أن أؤكد هذا لأنني أعتقد أن فترة بينية لعدة شهور بين رحلتين تستغرق كلا منهما عاما واحدا تعطي للباحث فرصة أفضل من قضاء عامين متواصلين في حقل الدراسة ))
وقد نشر مالينوفسكي دراسته الرئيسية عن التروبرياند عام 1922م ،وهي تتميز بعرض كثير من الأفكار المتصلة بأساليب البحث وكأن مالينوفسكي أراد أن تكون دليلا للعمل الحقلي لغيره من الباحثين ، وهو يشير في مقدمتها إلى المهمة العاجلة للدراسات الحقلية في التعرف عن قرب على المجتمعات البدائية قبل أن تضيع الفرصة فالعمل كثير والوقت ضيق، وأشار إلى اطلاعه فبل الرحلة على كل مايتصل بمنطقة البحث ، وإلى مشاعر القلق واليأس التي صاحبت محاولاته الأولى للتقرب من الأهالي ، وإلى بدء تعلمه لمفردات اللغة المحلية خلال ملاحظته للأفراد وهم يمارسون أعمالهم العادية ، وقد استطاع مالينوفسكي التحدث بهذه اللغة بعد ثلاثة شهور من بدء إقامته ولكنه لم يتمكن من متابعة محادثات الأهالي بسهولة إلا في زيارته الثانية للجزيرة ،ويبدو حرصه على تعلم اللغة المحلية بسرعة في إدراكه أنها السبيل الوحيد لفهم عقلية الأهالي وسلوكهم وطريقة تأويلهم لكل عناصر الحياة من حولهم، وقد شغل نفسه في البداية بتسجيل المشاهدات وجمع الإحصاءات ومصطلحات القرابة والتسلسل الجنيالوجي إلى أن يصبح قادرا على التفاهم المباشر مع الأهالي بلغتهم.
ويحذر مالينوفسكي من التأثر بأحكام الأشخاص الغير منتمين إلى الثقافة موضع البحث، فغالبا ما تكون متحيزة وغير موضوعية ، وقد شعر بشيء من الإحباط في البداية عندما لاحظ أن من تحدث إليهم من التجار والمبشرين والموظفين الذين قضوا سنوات من الاتصال المباشر مع الأهالي لم تكن لديهم معرفة كاملة بأي شيء يتصل بحياة هؤلاء الأهالي ، فكيف إذن سيتمكن هو خلال عدة شهور من الإحاطة بجوانب ثقافتهم كلها ، واكتشف مالينوفسكي عندما أصبح وحيدا في عمله بالجزيرة مايسميه الحجر الأساسي للعمل الحقلي والذي يتمثل في هذه القواعد الثلاث:
1ــ تهيئة الظروف الملائمة للعمل الحقلي ، فنجاح هذا العمل متوقف على انقطاع الباحث له وعدم الاكتفاء بالزيارات اليومية للموقع ، ففي هذه الحالة سوف يلجأ إلى الأهالي ويعيش حياتهم حتى يصبح وجوده بينهم لا يثير أي تغيير في مجرى حياتهم العادية ومن ثم يتصرفون ويتحدثون في حضوره بصورة طبيعية .
2ــ تزود الباحث بأحدث ماتوصلت إليه الدراسة العلمية في المجال الأثنوجرافي الذي يعمل فيه، وهنا يفرق مالينوفسكي بين الفروض والنظريات التي يستلهمها الباحث في دراسته وبين الأفكار المسبقة التي تجعل البحث الحقلي جهدا ضائعا ، ويشير إلى أن نظريات دوركايم وفريزر وغيرهم ستظل تلهم الباحثين الحقليين لفترات طويلة وتقودهم نحو الوصول إلى نتائج جيدة.
3ــ العمل في ضوء أساليب ملائمة لجمع المادة الحلقية ومعالجتها، فدراسة أية ظاهرة لا تتم إلا من خلال دراسة اكبر قدر من المظاهر والوقائع الحسية التي تتمثل فيها، كما أن الأهالي يسلكون وفق القواعد التي تحددها لهم الثقافة ولكنهم عاجزون عن التعبير عنها تعبيرا محددا، ومهمة لباحث هي تحليل المادة التي يجمعها من اجل الوصول إلى القواعد والنظم المجردة.
فالطريق الوحيد لفهم حياة الأفراد من وجهة نظرهم هم لا من وجهة نظر الباحث هو الانخراط الكامل معهم في هذه الحياة، "ومن الأفضل للاثنوجرافي في مثل هذا العمل أن يضع أحيانا آلة التصوير والمذكرة والقلم جانبا وان يشارك بنفسه فيما يجري حوله، فيدخل مع الأهالي في ألعابهم، ويصاحبهم في رحلاتهم وجولاتهم، ويستمع إليهم ويشاركهم في مناقشاتهم، ويشير مالينوفسكي إلى انه اتبع هذا الأسلوب ليس فقط بغرض الدراسة وإنما استجابة كذلك للميل الطبيعي لدى الإنسان نحو مصاحبة غيره من البشر، وانه كان يجد نتيجة لذلك أن مظاهر سلوكهم تزداد وضوحا من ذي قبل، وهذا ما ساعده على أن يقدم مجتمع التروبرياند في صورة حية لا في صورة مسطحة، وقد ساعده ايفانر برتشارد بعد ذلك على دعم هذا التقليد الذي بدأه مالينوفسكي وذلك خلال دراسته للازاندى والنوير، فهو يقول "لقد وطنت نفسي إلا اخذ معي مذكرة الملاحظات فيكل مكان عام، لا لان الناس سوف يعرفون ما افعل، بل لأنني اشعر بان هذه المذكرة سوف تقف بيني وبينهم وتحطم ما بيننا من اتصال"
وبعد أن يوضح مالينوفسكي القواعد الثلاث لأسلوب العمل الحلقي يشير كذلك إلى السبل الثلاث لتحقيق هذا العمل وهي:
1ـ التحديد الواضح للقبيلة من حيث تنظيمها وهيكلها الثقافي كإطار عام للبحث، ويفيد في ذلك تجميع البيانات الجنيالوجية والسكانية ورسم الخرائط والجداول التي تعبر عن نظام تملك الأرض وأولويات الصيد وتوزيع المحاصيل وتنظيم الأنشطة الشعائرية وأنماط الهدايا بجوانبها السسيولوجية والشعائرية والاقتصادية.
2ـ تجميع البيانات المتصلة بحياة الأهالي وسلوكهم داخل هذا الإطار من خلال الملاحظات الدقيقة المفصلة، ويشمل كل ذلك ما يتصل بسير الحياة الاجتماعية والمحادثات التي تجري خلال الجلسات حول النيران في القرية والعلاقات والمنازعات بين الأفراد ومظاهر التعبير عن المشاركة الوجدانية الكراهية والمفاخرة، فهذه كلها تعبر عن الخيوط التي تربط الأفراد بالعائلة والعشيرة والقبيلة.
3ـ تجميع البيانات المعبرة عن عقلية الأهالي وتشمل أسلوبهم في التعبير عن الرأي والأقوال المأثورة والقسس الشعبي والأساطير والأغاني والصيغ السحرية والتفسيرات الشائعة بينهم للأعراف والمعتقدات.
وقد زادت القيمة العلمية لهذا الدليل المنهجي في العمل الحلقي عندما نشرت أرملة مالينوفسكي عام 1967م م يومياته التي كان يسجلها خلال إقامته بجزر تروبرياند، ومنها تتبين الجوانب الأخرى من حياته التي لم تشملها كتبه، من مشاعر الضجر والوحدة والخوف إلى حد الشعور العميق باليأس ((استيقظت من نومي على أصوات العاصفة والرعد واعتراني خوف شديد، وشعرت للحظة إنني لن أرى ايلزى بعد الآن، وزادت هذه الفكرة في مخاوفي" إلى المصادمات مع بعض أفراد القبيلة أحيانا مثل "ابدي احد الزنوج ملاحظة جعلتني أثور بشدة واسبه، وعملت في الحال على التحكم في نفسي ، ولكني كنت متكدرا بصورة رهيبة)) إلى مشاعر الحنين إلى خطيبته الأسترالية ايلزى ووطنه الأصلي بولندا ((فكرت في بولندا وفي النساء البولنديات ، ولأول مرة شعرت بالأسف العميق لأن ايلزى ليست بولندية" إلى شعوره بمتعة العمل والحياة في الجزيرة "عدن في المساء" مشاعر قوية بالرضا عن الحياة، العزلة، إمكانية التركيز،العمل ، الأفكار الرئيسية الوجود الحقيقي، فكرت في كل ذلك وأنا راقد على سريري"، إلى توتر عصبي لا يدري سببه "إثارة عصبية شديدة، ونشاط عقلي في الظاهر، ولكن دون قدرة على التركيز" إلى ضيق من عدم تعاون الأهالي معه أحيانا "في الثانية عشر ة والنصف ذهبت إلى القرية، وتحدثت مع كوايوايا ومع توداوادا والآخرين، ولكنهم رفضوا أن يأخذوني معهم، إلى تأملات قريبة من تأملات الشعراء "متعة في الانطباعات الجديدة، موجات من العناصر المتميزة، تفيض علي منكل جانب، وتتكسر على بعضها فوق بعض، وتمتزج ثم تتلاشى، متعة كتلك التي تصاحب سماع قطعة موسيقية جديدة أو تجربة حب جديدة.
ولم يفت مالينوفسكي أن يقوم بعملية نقد ذاتي لعمله الحلقي بعد انتهائه، وسجل ذلك فيما سماه "اعترافات الجهل والفشل، وجعلها ملحقا لأحد كتبه التالية للدراسة الأصلية، ويرتبط النقد بموضوعات معينة في دراسته للتروبرياند، ومنه يمكن استخلاص هذه النواحي العامة كمجالات قصور في البحث الحلقي.
1ـ الاعتماد على إخباري واحد بالنسبة لمعلومة معينة دون مضاهاة ما يقول بأقوال إخباريين آخرين بالإضافة إلى الملاحظة الشخصية،وهذا من شانه التسرع في الربط بين العناصر دون تمحيص كاف.
2ـ عدم الاهتمام بعمليات القياس والعد للأشياء التي يمكن إخضاعها للإحصاء الكمي، " ولو استطعت العودة للحقل مرة أخرى لأعطيت أهمية اكبر لعملية القياس والوزن والعد لكل شيء يمكن قياسه أو وزنه أوعده"
3ـ عدم توجيه الاهتمام للوقائع الصغيرة بنفس القدر الموجه للوقائع المثيرة "ولو أنني أعرتها الاهتمام الكافي لفتحت أمامي مجالات أوسع لفهم بعض النواحي التطورية والتاريخية"
4ـ كان الجهل بالمعارف النباتية من المعوقات الهامة في الدراسة "ولو كانت عندي خبرة بنباتات المناطق الحارة لقدمت لي مساعدة كبيرة في عملي، واعتقد ان اتقاني لوصف زراعة الحدائق لا يصل الى نصف اتقاني لوصف الشعائر المتصلة بها"
5ـ عدم الإلمام الكافي بالنواحي التكنولوجية كعمليات إنشاء المساكن مثلا.
6ـ عدم الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي بدرجة كافية "فقد اعتبرته عملية ثانوية وربما غير هامة لعملية جمع المعلومات".