الحق يقال فأن مفهوم البنية شابه قدر من الغموض لوروده بأشكال عديدة في أعمال الكثيرين من علماء الاجتماع. تعددت الآراء وتنوعت حول هذا المفهوم لدرجة استحالت معها فرصة الوصول إلى تعريف واحد شامل ومحدد يتفق حوله العلماء. ففي كتابه "البنية الاجتماعية" (1965) يرى موردوك أن مفهوم البنية الاجتماعية يدل على تماسك المؤسسات الاجتماعية إذ ليست تلك المؤسسات تجمعاً عشوائياً بل أن لها بنية. أحد أغراض هذا النوع من التحليل هو بالتحديد فهم تماسك المؤسسات الاجتماعية وإظهار تبعيتها المتبادلة، ولذلك فإنه يلاحظ استبعاد هذه الفكرة في شكل التحليل البنيوى الوظيفي. بصورة أعم غالباً ما ينال مفهوم البنية عند الوظيفيين والبنيويين تفسيراً قريباً من مفهوم النمط. في حالات يتم استخدام مفهوم البنية بمواجهة تعبيرات أخرى أو بالعلاقة معها إذ نجد أن غورفتش في مقال نشره بعنوان "مفهوم البنية الاجتماعية" (1955) يميز مثلاً المجموعات المبنية عن المجموعات المنظمة وهكذا فإنه يعتقد بإمكانية أن تكون الطبقات الاجتماعية "متبنية" دون أن تكون "منظمة". ويواجه مفهوم البنية في ظروف أخرى بمفهوم المصادفة. كذلك فأن مفهوم البنية غالباً ما يشير إلى العناصر الثابتة لنظام معين مقابل عناصره المتغيرة … وهكذا تشير فكرة المفهوم إلى نموذج معين، إما إلى ثوابت النموذج، وإما إلى مجمل الثوابت والوظائف التى تربط المتغيرات فيما بينها، وإما أيضاً إلى مجمل الثوابت والوظائف. وفي حالات أخرى أيضاً يستعمل مفهوم البنية بشئ من التردد لتمييز الأساسي من الثانوي والجوهري من غير الجوهري والأصلي من المشتق … هكذا يرى مانهايم أن البنية الاجتماعية هي "نسيج القوى الاجتماعية في نشاطها المتبادل والذي تخرج منه مختلف نماذج الملاحظة والفكر"…في هذه الحالة فأن مفهوم البنية الاجتماعية يشير بصورة ضمنية إلى مجمل العناصر لنظام اجتماعي معين يخمن عالم الاجتماع أنه يسيطر عليها ويحدد الأخرى. بالنسبة لمانهايم يتعلق الأمر بالعناصر المادية (التى يشار إليها بغموض بعبارة "القوى الاجتماعية" التى تسمح بتفسير العناصر الفكرية، وهو ما يذكرنا بالتمييز الذى يقيمه ماركس بين البنية التحتية والبنية الفوقية. ويستعمل بعض علماء الاجتماع مفهوم البنية الاجتماعية بحسبانه مرادفاً "لنظام التدرج" وتعد متغيرات التدرج في هذه الحال أولية وحاسمة.
وقد رفض علماء الأنثروبولوجيا من أمثال كروبر وايفانز برتشارد وراد كليف بروان عد بعض فئات المتغيرات بصفتها حاسمة بحيث أصبح مفهوم البنية الاجتماعية عندهم مرادفاً بسيطاً لمفاهيم أخرى، مثل مفاهيم التنظيم الاجتماعي أو تنظيم العلاقات الاجتماعية. هكذا يمكن أن يظهر مفهوم البنية مترابطاً مع مفهوم النظام إذا اعتبرنا أن النظام هو مجمل "العناصر ذات التبعية المتبادلة". ولكن يمكن أن يظهر كذلك وكأنه معَّرف ضمنياً أو صراحة بمواجهة مجموعة أخرى من المفاهيم أو من التصاق بها، في اتجاهات متنوعة جداً ربما يستطيع الوضع العام وحده أن يحددها.
على كل فقد اقترن مفهوم البنية عند أصحاب الاتجاه الوظيفي بالدراسات الحقليَّة المعمقة بخاصة تلك التى قام مالينوفسكى في جزر تروبرياند وكذلك راد كليف بروان في جزر الاندمان حيث ظهرت تبعاً لذلك تعريفات للبنية الاجتماعية بعيدة عن الارتباط بالوظيفة عند براون وآخرين وظهور اتجاه جديد يجمع بين البنية والوظيفة عرف بالاتجاه البنيوي الوظيفي.
يرى بروان أن مفهوم البنية يشير بالضرورة إلى وجود نوع من الترتيب بين الأجزاء التى تدخل في تركيب الكل وذلك لأن ثمة علاقات وروابط معينة بين الأجزاء التى تؤلف الكل وتجعل منه بنية متماسكة ومتمايزة. ومن ثم تكون الوحدات الجزئية التى تدخل في تكوين البنية الاجتماعية هم الأشخاص أعضاء المجتمع الذين يحتل كل منهم مركزاً معيناً في المجتمع ويؤدى دوراً معلوماً في الحياة الاجتماعية. وكما أشرنا سابقاً فأن هذه تشكل النقطة الأساسية في نظرية راد كليف بروان عن البنية الاجتماعية لأن الإنسان فرداً لا يعد جزءاً مكوناً للبنية التى تتألف من أشخاص هم أعضاء المجتمع لا من حيث أنهم أفراد.
الإنسان فرداً هو كائن بيولوجي يتكون من مجموعة كبيرة من وحدات وعمليات عضوية ونفسية وبالتالي مداراً لبحث البيولوجيا وعلم النفس. أما الإنسان شخصاً فهو مجموعة من العلاقات الاجتماعية تتحد طبقاً لمكانته الاجتماعية مواطناً، وزوجاً، وأباً، وعضواً في مجتمع الخ. من هنا يصبح الإنسان "الشخص" لا "الفرد" هو موضوع بحث الأنثروبولوجيا الاجتماعية التى تستمر باستمرار النظام الاجتماعي الذى ينظم أدوار الأشخاص ويشخص علاقاتهم بين بعضهم البعض ويحددها … هذا ما يفسر، في رأي براون، استمرار العشيرة، والقبيلة، والأمة بحسبانها تجسيداً لتنظيمات معينة من الأشخاص رغم التغير الذى يصيب الوحدات المؤلفة له من وقت إلى آخر . يقصد براون بالبنية الاجتماعية الآتي:
أولاً: الجماعات الاجتماعية الموجودة لفترة طويلة وكافية، وهى الأشكال المورفولوجية للمجتمع الإنساني والتي تمثل تجمع الأنساق في وحدات اجتماعية مختلفة الأحجام.
ثانياً: التباين القائم بين أفراد وجماعات مجتمع من المجتمعات، ويحدد ذلك التباين الأدوار الاجتماعية التى يقوم بها الأفراد والجماعات في المجتمع الواحد، مثل اختلاف المركز الاجتماعي بين الرجال والنساء، وبين الشيوخ والشباب، وبين الشباب والأطفال، وبين الرئيس والمرؤوس، وبين صاحب العمل والعمال.
ثالثاً: كل العلاقات الاجتماعية التى تقوم بين شخص وآخر من البنية التى تتكون من العلاقات الثنائية مثل العلاقات بين الأب وابنه، وابن الخال وابن أخته الخ. ويعد النظام القرابى في المجتمعات غير المعقدة أهم النظم الاجتماعية وهو الذى يحدد شبكة العلاقات الاجتماعية للمجتمع.
وتتميز البنية الاجتماعية وفقاً لبروان بعدة خصائص:
1- البنية الواقعية التى هي مجموعة من العلاقات الواقعيَّة بين شخصين على الأقل، وقد تضم عدداً كبيراً من الأشخاص. ما يميز هذه العلاقات طابعها المتغير سواء بين الأشخاص أو الجماعات، بمعنى أنها غير ثابتة بفعل دخول أعضاء جدد في المجتمع عبر الولادة أو الهجرة إلى المجتمع، والهجرة من المجتمع، والوفيات. تشمل البنية الاجتماعية الواقعية أيضاً جميع العلاقات الاجتماعية الجزئية المتغيرة بين أعضاء أي مجتمع من المجتمعات البشرية.
2- الصورة البنيوية التي تتميز بالثبات النسبي لفترة زمنية تطول أو تقصر وفق متغيرات معينة. وتتعرض الصورة البنيوية للتغير في حالات بصورة فجائية أو تدريجية … فالثورة أو الغزو الخارجي قد يؤديان إلى حدوث تغير فجائي عارم.
3- لا يمكن رؤية البنية الاجتماعية بصورة مباشرة، لكن يمكن للباحث ملاحظة البنية في صورة علاقات اجتماعية محسوسة بين أفراد وجماعات مجتمع من المجتمعات …. ثم أن دراسة البنية الاجتماعية شئ ودراسة العلاقات الاجتماعية شئ آخر. يستخدم بعض الأنثروبولوجيين مصطلح البنية الاجتماعية للإشارة إلى الجماعات الاجتماعية الثابتة فقط مثل الأمم، والقبائل، والعشائر…إلخ التى تحتفظ باستمراريتها وكياناتها بالرغم من التغيرات التى تتعرض لها عضويتها زيادة أو نقصاناً.
5- يدرس الباحث الأنثروبولوجي البنية الاجتماعية بهدف الوصول إلى نتائج موضوعية مستخدماً منهجاً شمولياً، أي دراسة تشمل جميع أجزاء البنية الاجتماعية وكافة مظاهرها ذلك أن عناصر البنية وأجزاءها تتفاعل ككل وعلى الباحث أن يكشف عن العلاقات المباشرة وغير المباشرة التي تربط تلك العناصر والأجزاء. بمعنى آخر عليه أن يحدد عملية التأثيرات المتبادلة بين وحدات البنية الاجتماعية.
6- استمرار البنية الاجتماعية وبقائها فترة طويلة من الزمن، وهى خاصة تميز البنية وتؤهلها للقيام بوظيفتها الاجتماعية الأساسية المتمثلة في الحفاظ على تماسك المجتمع وبقائه، ويكون بقاء البنية بقاءً متجدداً لا جامداً، بمعنى أنه متغير وليس ساكن.
لقد أصبحت البنيوية الوظيفية دراسة لا لنمط الحياة بل لنمط وجود فعلى متخطية نزعة المركزة الاثنية التى ميزت الأنثروبولوجيا في النصف الأول للقرن التاسع عشر والتي لم تر في المجتمعات الأخرى إلا أنواعاً من الحياة التى تخطاها التطور.
وتعد البنيوية الوظيفية أن كل مجتمع، بحسبانه نظام مؤسسات وممارسات لها دلالتها، قادر على الاستمرار في حركته وتحولاته والقيام بوظيفته رغم التغيرات الظاهرة داخلياً وخارجياً على المستوى "الشخصي"، وقادر على الممارسات غير الهامة. فالمجتمع ليس مجرد ركام لا عضوي كما تصور أنثروبولوجيو النصف الأول من القرن التاسع عشر، بل هو "نظام" وظيفي من مؤسسات تلبى حاجات إنسانية أساسية. فالوظيفة الإنسانية والاجتماعية لهذه المؤسسات هي التى تعطيها شبه شرعيتها وديمومتها. وقد عبرت عالمة الأنثروبولوجيا البريطانية لوسى ماير عن ذلك بقولها: "أن تفسير الثقافة الإنسانية بحسبانها آلية تضامن تهدف لتحقيق الحاجات الاجتماعية بحيث يرتبط كل عنصر فيها بالباقي ويظل مشروطاً به، يفرض ضرورة الاهتمام بجدية أكثر بالمؤسسات غير المعقدة للشعوب غير المتحضرة أكثر مما تم في الماضي، وطالما أننا نؤكد أن القبائل مازالت تعيش شروط البربرية غير المنتظمة،و هى شروط تعترف بقسوتها حتى القبائل، يصبح يسيراً علينا أن نتطلع إلى انتصار المدنية مع ما يلحق بها من حسنات، وأن تعد كل مقاومة حيوية مؤقتة سترتفع حين يتبنى السكان الأصليون مفهوماًُ أكثر عقلانية".
الاتجاه الثقافوى النسبي الأمريكي
أن يكون لكل مجتمع إنساني نظامه القيمي، والمستند إلى اختيار ثقافي مميز، وإلى خلفيات سماها كادرينر لاحقاً بالشخصية القاعدة، كل ذلك سمح للأنثروبولوجيا الأمريكية أن تتخطى في الفترة 1930-1950 الكثير من الغيوم التى شابت البنيوية الوظيفية البريطانية. نجحت منهجية الدراسات الأمريكية ولغتها في التوصل إلى خطاب جديد معادٍ للأيدولوجيا الاستعمارية ومتوافق مع مطالبة المجتمعات غير المعقدة الخاضعة للاستعمار بحقها في الوجود.
رأى الفريد كروبر (1876-1960) أن التاريخ لا يعنى قط دراسة تتابع الظواهر والأحداث في الزمن، كما فهمه الوظيفيون، وإنما يهدف في النهاية إلى إعطاء وصف متكامل لموضوع الدراسة، وبهذا يمكن استخدام التاريخ في دراسة الوقائع والأحداث الجارية في مجتمع معين، على أساس هذا التوسع في مفهوم التاريخ عند كروبر بحسبانه منهجاً يأخذ في الحسبان عنصري الزمان والمكان، تصبح الأنثروبولوجيا دراسة تاريخية في المقام الأول ويكون هدفها هو التمييز بين الأنماط الثقافية التى يمكن استخلاصها من الدراسة المقارنة للشعوب. لكن علماء أنثربولوجيا أمريكيون آخرون من أمثال روث بناديكت، ومرجريت ميد، وإدوارد سابير، ومكاردينر رأوا أن التاريخ وحده لا يكفي لتفسير الثقافة، ذلك لأن الثقافة مسألة معقدة تجمع، في اعتقادهم، بين التجربة المكتسبة عبر الزمن وخلال التاريخ وبين التجربة النفسية (السيكولوجية)، وأن أية سمة من السمات الثقافية تضم بذلك مزيجاً من النشاط النفسي والثقافي بالنسبة إلى بيئة معينة. نتج عن ذلك لجوء أولئك الأنثروبولوجيين إلى الاستعانة بمفاهيم علم النفس.
كانت دراسة روث بناديكت "أنماط الثقافة" الذى نشرته في عام 1934 بداية حقيقية لبلورة الاتجاه الثقافوى النسبي (ما يعرف في حالات بالاتجاه التاريخى النفسي) في دراسة الثقافات. ويبدو أن نزعة المقارنة التى ميزت دراستها لا يجوز بحال ردها إلى النزعة التى كان قد اقترحها راد كليف براون. لا شك أن الدراسات التى أجريت لأنماط المجتمعات التى تميزت بممارساتها الاقتصادية والاجتماعية والدينية (الدوبو، والزونى ، والكواكيت من شعوب أمريكا الأصليين) إلى جانب التقصي عن الأنظمة الثقافية التى لا بدَّ منها والتي تعد نماذج قصوى عن طواعية الإنسان، هي التى مكنت روث بناديكت من تطوير نظريَّة "الصيغ الثقافية". ترتكز كل ثقافة، في اعتقاد بناديكت، حول مبدأ أساسي يعطيها نمطاً أو تشكيلاً خاصاً بها يميزها عن غيرها من الثقافات. إن كل مجتمع لا يستعمل سوى جزء محدد من الصيغة الثقافية التي باستطاعة الإنسان استخدامها . وأجرت بناديكت دراسة مقارنة بين عدة ثقافات غير معقدة أوضحت من خلالها العلاقة القائمة بين "الصيغة الثقافية العامة ومظاهر الشخصية كما تنعكس لدى الأفراد في تلك المجتمعات". وكما أشار أحمد أبو زيد فإنه في حين "بدأ مالينوفسكى نظرته للثقافة من الفرد عاداً الظواهر الثقافية مشتقات من الحاجات الفردية، بدأت روث بناديكت من الصيغ الثقافية عادة السلوك الفردي مجرد اتفاق وتواؤم مع التعاليم، والمثل ، والقيم، والاتجاهات الثقافية الموجودة بالفعل". هكذا تمَّ طرح لا الفكرة ذات الخط الواحد وحسب، بل فكرة التطور أيضاً بمعناها التقليدي.
وهكذا تم إحلال فكرة الاختيار الثقافي بدلاً عن مفهوم الطبقة، أو التماهي أو التوازي في مسيرة كل مجتمع. الاختلاف ليس هو بغية الانتظام، أي التأخر وسط التطور الوحيد، بل أنه محصلة الاختيار والطرق المتباينة. وفقاً لهذا المنظور تنتمي كل مقاومة وتفقد دلالتها. هكذا لا يعود لأي مجتمع طموح أو عجرفة الحكم على الآخرين وتكتسب تخريجات غير متنافسة للممارسات والعقائد، وهى لا تختلف عن بعضها بعضاً، لأن خطاً معيناً يكون حاضراً هنا غائباً هناك، أو لأن خطاً آخراً موجود في منطقتين اثنتين، ولكن بأشكال مختلفة. إنها تختلف ككل في اتجاهات مختلفة. إنها تتقدم في طرق مختلفة بحثاً عن غايات مختلفة، وهذه الغايات والوسائل التى نجدها في مجتمع ما لا يمكن الحكم عليها بعبارات مجتمع آخر لأنه لا يمكن قياسها".
لقد ساعدت شمولية معنى المؤسسات الإنسانية (القرابة والاقتصاد والسياسة) كل من راد كليف براون ومالينوفسكى على إرساء نظرية المقارنة. إلا أن الأمر بالنسبة لبناديكت يختلف ذلك أن المؤسسات ليس سوى إطار شكلي لكنه فارغ، ويكون من اليسر إظهار شموليتها حين نترك المعنى العيني والفعال الذى تمثله في ثقافة ما، أو من أجلها . ينطبق هذا بدوره على مفهوم "الوظيفة" بالمعنى الذى أدخله عليه كل من مالينوفسكى وبروان، وهو أمر يعود لتفسير المؤسسات لقيم خاصة ومميزة. إن "الاختيارات" مرتبطة بمجتمع معين، لا بحسبانها استجابة لحاجات أساسية كما يعتقد مالينوفسكى (شمولية الحاجة الجنسية تقابلها شمولية العائلة، والجوع تقابله المؤسسة الاقتصادية، وشمولية القلق تقابله المؤسسة الدينية).
يوجد نموذج ثان للاتجاه الثقافوى النسبي الأمريكي يتمثل في مؤلفات ابرام كاردينر التي تطرح مفهوم الشخصية القاعدة الذى يشير إلى مجموعة الخصائص النفسية والسلوكية، التى تتطابق مع كل النظم والعناصر والسمات المؤلفة لأية ثقافة. يركز كاردينر على ما أسماه النظم الأولية المرتبطة بتربية الأطفال في سنواتهم الأولى، والتي تختلف من ثقافة إلى أخرى. يفترض كاردينر أنه نتيجة لاشتراك مجموعة من الناس في نوع معين من النشأة والتربية خلال مرحلة طفولتهم، تسود سمات شخصية مشتركة بينهم عندما يكبرون. ومن ثم ترتبط هذه الصفات بالتشكيل النهائي للثقافة السائدة بين هؤلاء الأفراد. ومع أنه لا يمكن للنمط أو التشكيل الثقافي السائد أن يزيد من وجود الفوارق الفردية و يقللها في نطاق الثقافة الواحدة إلا أن العلاقة بين الأنماط الثقافية والشخصية الفردية والتأثيرات المتبادلة بينها أمر لا يجوز إهماله. وعرض كاردنر في كتابه "التخوم النفسية للمجتمع" عدداً من أنماط الثقافة: ثقافة الكومانشى أو ثقافة شعوب الألور، بمواجهة الثقافة الغربية كما تجسدها مدينة أمريكية صغيرة. وقد اعتمد تفسير كاردنر إلى قيم أساسية، أو كما يقول كاردنر استنادا إلى "نظم إسقاط" الشخصية الأساسية التى تتمثل في كل ثقافة دون اللجوء إلى قيم أو مفاهيم خارجية، وذلك يعود، كما يقول "لامتلاك كل ثقافة تركيباً نفسياً فريداً، ولا وجود لثقافتين متشابهتين".
لا يعنى ذلك، في رأى دعاة الاتجاه الثقافوى النسبي الأمريكيين، أن تكون الثقافات بمثابة "نجاح ثقافي" دوماً بالدرجة نفسها، ذلك أن بعضها يكون أكثر انسجاما وتكيفاً من بعضها الآخر. فالتكيف لا يقاس مباشرة بدرجات التقدم التقني أو "الثقافي" بل بالعكس قد يرى البعض أن الثقافة الغربية أقل تكيفاً من كثير من المجتمعات غير المعقدة، ثم أن التغير الذى نتج عن التناقص لا قيمة له في حد ذاته. فلكل ثقافة طريقتها في إدراك التغير ومعايشته … فهي إما أن تقبله بصمت، أو أنها ستحاول إعدامه. يمكن أن يستنتج من ذلك أن الفرض القسري لنمط تغير معين غالباً ما يؤدى إلى تشويهات في النظام الثقافي، وهى تشويهات قد تتحول إلى كبت على مستوى الأفراد أو إلى خلل نفسي وأمراض عقلية.
أما سابير فقد اقترح تمييزاً بين ثقافات "أصيلة" وثقافات "غير أصيلة" الأولى: "ثقافات منسجمة، متوازنة، وتعيش في تطابق كلى مع ذاتها". أما الأخرى فتحيل الفرد إلى حالة من الصدأ، كما تولد الكبت والاغتراب. ومهما كانت فاعلية الصنف الثاني من الثقافات وقوتها التقنية بارزة، فهي لا تستطيع إخفاء "إخفاقها الثقافي": ليس هناك من وهم أكبر سخرية وأكثر من الوهم الذي نتقاسمه جميعاً، والناجم عن امتداحنا التخصص والدقة التقنية المتنامية والكمال الذى أدخله العلم على تقنيتنا، بحيث يخال لنا الوصول إلى نتائج متشابهة فيما يتعلق بعمق ثقافتنا ومطابقتها وانسجامها كلياً مع حياتنا".
يعود الفضل إلى هرسكوفيتز في اختراع مصطلح "نسبية الثقافة" إذ أنه قد تساءل "كيف يمكن إطلاق أحكام قيمة على هذه الثقافة أو تلك، أو على الثقافة غير المعقدة بشكل عام طالما أن هذه الأحكام مبنية على التجربة، وطالما أن كل فرد يفسر التجربة بحدود تناقضه الخاص؟. لا وجود لـ"تجربة" (حسية، أو فنية، أو دينية..إلخ) بذاتها، طالما أن كل تجربة هي نسبية بالنسبة لنسق المجتمع الثقافي، وطالما أن كل مجتمع هو نظام تجربة وأحكام.
ويعود الفضل إلى ميلفن هرسكوفيتز بالاشتراك مع رالف لنتون وروبرت ردفيلد في النظر للتناقض بحسبانه يشمل التغير الثقافي في تلك الظواهر التى تنشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر معها، مما يترتب عليه حدوث تغيرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى هاتين الجماعتين أو فيهما معاً. هكذا فإن المفهوم العام للتناقض هو الطريقة التي تقبل بها ثقافة وافدة أو جديدة وتهضمها داخل محتواها بحيث تصبح هذه العناصر الجديدة أو الوافدة جزءاً لا يتجزأ من المضمون الثقافي العام. وبذلك فإن دراسة التناقض والتغير الاجتماعي هي عبارة عن دراسة عملية التغير والتقبل في الكثير من النظم والعناصر الثقافية، لكى تتلاءم العناصر الجديدة مع الكم الثقافي أو يتلاءم الكم الثقافي مع العناصر الجديدة، أو أن تحدث العمليتان معاً بدرجات مختلفة حسب قوة العناصر الجديدة وأهميتها في الثقافة ككل.
غض النظر عن أهداف دراسات التناقض فإنها قد ساعدت على إثراء كنز المعطيات الاثنولوجية في العالم، كما أسهمت في ظهور الكثير من الأفكار النظرية. كذلك أوضحت أن درجة التغير في مجال الثقافة المادية أسرع بكثير من مجالات الثقافة غير المادية. وفي الوقت نفسه أوضحت هذه الدراسات أن العناصر الثقافية الجديدة لا تجد تقبلاً متشابهاً في مجموعها عند الجماعات المختلفة وذلك بفضل تأثير المدى الواسع للاختيار عند المجتمعات الإنسانية.
التطورية الجديدة
يمثل الاتجاه التطوري، كما أوضحنا، أحد أقدم المحاولات وأكثرها انتشارا لتفسير تطور الثقافة. ونعنى بالاتجاه التطوري تلك الفلسفة الاجتماعية التى تمتد جذورها إلى منظري القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من أمثال فيكو، وسبنسر، والتي وجدت تطبيقاً لها في الأنثروبولوجيا على يديّ مورغان وتايلور. ولا شك أن مناهج الاتجاه التطوري ونظريته الأنثروبولوجية لم تظل جامدة منغلقة منذ بزوغها إذ تعرضت لتعديلات عديدة. وعلى الرغم من أن القليل من علماء الأنثروبولوجيا منْ يصنف نفسه تطورياً فإنه يلاحظ أن أفكار هذا الاتجاه تمثل عناصر ذات ثقل معلوم في كل المحاولات اللاحقة والحالية لتفسير تطور الثقافة.
بدأت عملية إحياء النظرية التطورية الأنثروبولوجية مجدداً في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين المنصرم على يديَّ ليسلى هوايت (1900-1975). وبرزت التعبيرات الأكثر تجلياً واتساعا للتطورية الجديدة في أعمال تلامذته بخاصة سيرفيس وسالينس. تأثر هوايت كثيراً بكتابات مورغان داعياً إلى عدم استخدام النظم الأوروبية أساساً لقياس التطور، وضرورة محكات أخرى يمكن قياسها وتقليل الأحكام التقديرية بشأنها. أكدَّ هوايت في كتابه "علم الثقافة" الذى نشره عام 1949 أنه من المهم ألا تقتصر النظرية التطورية على تعيين مراحل معينة لتسلسل نمو الثقافة وإنما لا بدَّ من إبراز العوامل التى تحدد هذا النمو وفي رأيه أن عامل "الطاقة" هو الذى يمثل المحك الرئيس لتقدم الشعوب. ويمكن تحديد أبرز العناصر الرئيسة للاتجاه التطوري الثقافوى الجديد التى عبر عنها ليسلى هوايت في النقاط التالية:
1- الالتزام بمبدأ الحتمية المادية.
2- الثقة في إمكانية صياغة قوانين ثقافية.
3- استخدام بعض مفاهيم نظريَّة التطور الداروينية.
يعتمد دعاة التطوريَّة الجديدة في تحليل تطور الثقافة على أشكال مختلفة من "التناظر الوظيفي العضوي". إنهم ينظرون إلى المجتمعات الإنسانية، مثلها مثل كافة الكائنات البيولوجية ، بحسبانها منتجة للتنوع، لكنه التنوع الثقافي الذى يظل فاعلاً على مدى الأجيال وفق الكفاءة الديناميكية الحرارية التفاضلية للمجموعات الثقافية المتنافسة بعضها مع البعض الآخر. هنا يتضح بجلاء استخدام التطور وفقاً للمفاهيم الداروينية. كان داروين قد شرح في كتابه "أصل الأنواع" الصادر في عام 1859 مفهومه للتطور، وهو مفهوم يمكن اختزاله في الخمس النقاط التالية:
1- إن كل الأنواع قادرة على إنتاج نسل بصورة أسرع مما هو عليه الحال بالنسبة للزيادات في إنتاج الموارد.
2- تظهر كل الكائنات الحية تنوعات، فليس من فردين للنوع الواحد متشابهين تماماً.
3- بما أن عدد الأفراد الموجودين أكثر مما يفترض بقاءه فإن صراعاً مريراً ينشأ تكون الغلبة فيه لأولئك الأفراد الذين يؤلفون نوعاً إيجابياً كماً، وقوة، ومقدرة على الجري أو أية خصائص أخرى ضرورية للبقاء.
4- تنتقل تلك التنوعات الإيجابية بالوراثة إلى الجيل اللاحق (وهذه فرضية خاطئة تقبلها داروين عن لامارك).
5- تنتج تلك الأنواع الناجحة، على مدى فترات من الزمن الجيولوجي، اختلافات تؤدى إلى ظهور أنواع جديدة.
كذلك يؤكد بعض التطوريين الجدد على جدوى تطبيق مفهوم "الارتقاء" على التاريخ الثقافي حيث يرى سيرفيس وسالينس أن "التطور يرادف الارتقاء: الأشكال الأعلى تنمو من الأشكال الأدنى وتقضى عليها". كذلك نجد أنهما يقولان بإمكانية قياس الارتقاء موضوعياً عبر "المصطلحات الوظيفية والبنيوية التى تمَّ تمثُلها في التنظيم الأعلى". وقد لخصا هذه العلاقة في ما أطلقا عليه تسمية "قانون السيادة الثقافية" الذى ينص على أن "النظام الثقافي الذى يستغل مصادر الطاقة المتوفرة في محيطه بكفاءة أعلى سيظهر قدرته على الانتشار في ذلك المحيط على حساب الأنظمة الأقل كفاءة … وأن النظام الثقافي يُظهر ميلاً للنشوء تحديداً في تلك البيئات التى تمكنه من تحقيق عائد طاقة أعلى لوحدة العمل أكثر من أية أنظمة بديلة أخرى". وكان ليسلى هوايت قد افترض بأن الثقافات تتطور عندما تزداد كمية الطاقة التى تستخدمها، أى وبمعنى آخر فإن المضمون التقني في ثقافة ما يحدد الكيان الاجتماعي، واتجاهاته الأيديولوجية، فمثلاً نجد أنه في المجتمعات التى يستخدم أفرادها قدراً محدداً من الطاقة تنشأ عندهم نظم دينية وسياسية واقتصادية أقل تعقيداً من تلك التى تتكون في مجتمعات تكثر فيها وتتنوع استخدامات الطاقة والإمكانيات التقنية.
وجه نقد للاتجاه التطوري الجديد لإهماله المنجزات التى حققتها نظرية التطور البيولوجية الحديثة. وقد رأى البعض أن الاتجاه التطوري الجديد هو اتجاه لاماركى في جوهره وذلك من حيث أن التطوريين الجدد لا يعيرون سوى قليل اهتمام إلى الأصول الأولى للتنوع الثقافي، بل يقترحون أن التنوع هو في الأساس، تواتر احتياجات مدركة بالحواس، بوعي أو بدون وعى، وهو ما يعنى النظر إلى اتجاه التغير الثقافي كوظيفة للتنوع الأولى أكثر منه نتاجاً للاصطفاء الطبيعي. يكون الناس من منطلق مثل هذا الفهم في حالة سعى للتكيف أكثر من كونهم كائنات متكيفة. وقد أشار دنل وفينيك إلى أن "البيئة في التطور العلمي تكون فاعلة من خلال الاصطفاء الطبيعي أو من خلال التنوع غير محدد الاتجاه لإنتاج التوجه الظاهر للتغير في مستويات أعلى. لكنه ووفق الاتجاه التطوري الجديد فإن البيئة تتحكم مباشرة في خلق التنوع".
هكذا يركز الاتجاه التطوري الجديد اهتمامه على صياغة تيبولوجيات أكثر من تركيزه على اختبار التنوع الإمبيريقى، وكذلك فإنه يهمل مفهوم الاصطفاء الطبيعي بافتراضه مساراً محدد الاتجاه للسجل التطوري. لكل ذلك أظهر الاتجاه التطوري الجديد عجزاً في إنتاج قوانين أو قواعد للتعاقب يمكن عن طريقها تفسير تطور الثقافة. لكنه رغم الإخفاقات فإن عناصر الاتجاه التطوري الجديد وجدت انعكاسا لها في المعالجات المطروحة لتطور الثقافة ونشوئها، بخاصة المعالجة الايكولوجية الثقافوية ونظيرتها المادية الثقافوية تحديداً في استخدام المعالجتين لمفهوم "التكيف" بديلاً لمفهوم "الاصطفاء الطبيعي".
الاتجاه الثقافوي المادي
يكاد أن يكون أي تفسير معاصر للتطور الثقافي مدين بقدر كبير من عناصره للفكر الماركسي. ويلاحظ وجود ثلاث مدارس رئيسة في الأنثروبولوجيا المعاصرة تدعى كلها الارتواء من نبع الإيحاء الماركسي: المادية الثقافوية، والبنيوية الماركسية، والمادية الجدلية. وتؤلف المدارس الثلاثة في جماعها جزءاً كبيراً من البنية النظرية للتحليل المعاصر للتطور الثقافي وهو ما يفرض علينا تناولها بالشرح والتوضيح وبالتحليل. نرى أن نبدأ عرضها بتناول المعالجة المادية الثقافوية وذلك لأنها تشكل تبسيطاً للمعالجتين الأخرتين . ورغم الاختلافات العديدة في مجال المصطلحات والفرضيَّات والمنهج، فإنَّ الاتجاه المادي الثقافوى يتميز ببنية منطقية تعكس الكثير من أوجه الشبه بالبنية المنطقية للاتجاه الايكولوجي الثقافوى فالاتجاه الأخير يفسر التباين بين الثقافات المختلفة للشعوب في إطار التنوع البيئي كما يهتم بالكشف عن الكيفية التى تؤثر فيها الثقافة على تكيف الأفراد مع ما قد يحدث في البيئة من تغيرات جذرية. ولا تقتصر البيئة لدى دعاة الاتجاه الايكولوجي الثقافوى على المحيط المادي فقط وإنما تشتمل أيضاً على كل ما يحيط بالإنسان من كائنات حية، سواء من نوعه أو مختلفة عنه وتترابط جميعها في نسق متكامل، أطلقوا عليه مصطلح "النسق الايكولوجي" الذى أصبح مجالاً لدراساتهم المركزة. ويعطى الايكولوجيون الثقافويون أهمية خاصة لمناهج تصميم البحوث ووسائل جمع المادة، والاستعانة بمفاهيم العلوم ذات اللغة ومناهجها (مثل علم الأحياء، والتغذية، والطب والسكان، والعلوم الزراعية)، وذلك بقصد تشكيل تصور عن أنماط التفاعل بين البيئة والكائنات الحية. نتيجة ذلك أصبح هذا الاتجاه مشابهاً لنظرية التطور الحيوي الذى قد يفسر عمليَّة التكيف ولكنه يعجز عن التنبؤ أو تحديد منشأ التغير أو أسبابه. وبما أن معالجتنا للاتجاه المادي الثقافوى تنطبق أساسياتها على الاتجاه الايكولوجي الثقافوى فإننا سنكتفي بالتعرض لتحليل الأول فقط.
يفترض الاتجاه المادي الثقافوى كما يفسره أحد أكثر دعاته حماساً، مارفن هاريس "أن تكون الأسبقيَّة المنهجيَّة موجهة للبحث عن قوانين للتاريخ في علم الإنسان" ، وذلك على أرضية تناول منهجي ابستمولوجى منطقي وضعي، مع إدراك هاريس للنقد الموجه إلى بعض جوانب الوضعية المنطقية. وينحصر دين هاريس لهذه الابستمولوجيا المركبة في التركيز على "الأحداث، والوحدات، والعلاقات التى يمكن إدراكها عبر عمليات إمبيريقية منطقية واستقرائية استدلالية، وقابلة للقياس، وخاضعة للتجربة عن طريق ملاحظين مستقلين".
ينتحل هاريس في تفسيره للتطور الثقافي تقسيم كارل ماركس الثلاثي للمجتمع الإنساني: القاعدة، والبنية، والبنية الفوقية. ويرى هاريس أنَّ كل تغير ثقافي وكل المجتمعات يمكن تحليلها من خلال أنماط الإنتاج (أي النظم الاقتصادية وتقنيات الإعاشة)، وأنماط إعادة الإنتاج (أي أنماط التزاوج وأساليب التحكم في السكان)، والاقتصاد السياسي (أي الطبقة والطائفة والحرب)، والبنية الفوقية (أي الفن والدين). تتمفصل تلك الوحدات في البنية التحتية لتكون أنماط الإنتاج وإعادة الإنتاج، والبنية التى تشمل الاقتصاد المنزلي والسياسي، والبنية الفوقية. ويرى هاريس أن الأساس الذى يربط تلك الوحدات هو أن أنماط الإنتاج وإعادة الإنتاج تعمل "محتماً احتماليا" للاقتصاد المنزلي وللاقتصاد السياسي الذين يعملان بدوريهما "محتماً احتماليا" للبنية الفوقية.
لا يشكل هذا المبدأ بالنسبة لهاريس وللماديين الثقافويين قانوناً وفق مفهوم قانون نيوتن، لكنه يشكل في الغالب إستراتيجية للبحث يمكنها أن توفر إمكانية للوصول إلى فهم يقوم على نواميس الطبيعة والمنطق مثل مبدأ الاصطفاء الطبيعي في نظرية داروين. ويقول هاريس أنه بترجمة هذا المبدأ بحسبانه إستراتيجية للبحث فإن "مبدأ الحتمية التقنية-البيئية هذا يفترض أن تكون الأولوية لدراسة الشروط المادية للحياة بالقدر نفسه الذى يفترض فيه مبدأ الاصطفاء الطبيعي أن تكون الأولوية لدراسة النجاح التفاضلي النهائي في إعادة الإنتاج".
ومن ثم ينصب اهتمام هاريس في تفسيره للتطور الثقافي على رصد التغيرات وتفسيرها، أي التغيرات في أنماط الإنتاج وأنماط إعادة الإنتاج والتي يمكنها، وفق شروط معينة، أن تنتج تحولات في البنية والبنية التحتية. ويتم التعبير عن تلك التحولات، في رأى هاريس، عبر ظهور المجتمعات القائمة على أساس التراتب الطبقي والتي يكون فيها الاستحواذ غير المتساوي على الثروات والسلطة هو السمة المميزة، وعبر ظهور ديانات رسمية، واقتصاديات الاعتماد الدولي، والحروب المتكررة. ويصر هاريس على التأكيد بأنه لا يدعو إلى إنشاء ربط آلي أو ثابت وغير متغير بين كل من البنية التحتية والبنية الفوقية يمكن من خلاله التكهن بالظواهر الثقافية كما هو الحال في الميكانيكا الحرارية. ويتمسك هاريس بأن عناصر البنية والبنية التحتية بإمكانها أن تنجز، بل وتنجز بالفعل ، بعض مقاييس السببية المستقلة بحيث تبدو العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية في أي مجتمع – لأغراض التحليل – علاقة تغذية متبادلة (راجعة) يمكن ترجمتها وفق نظرية الأنظمة.
لدى تفسيره لنشوء الأشكال الأولى للتكوينات الزعامية القبلية (المشيخات) والدول يؤكد هاريس على التداخل يبن البيئات الطبيعية وإمكانيات بنى الإنسان على إعادة الإنتاج. ويلاحظ أن هاريس يحدد الأشكال الاجتماعية وفقاً للتركيبات المعيارية التطورية الثقافوية. ويرى هاريس بأن تواتر الأحداث والعلاقات التى تؤدى إلى إنتاج كل المجتمعات المعقدة المبكرة تبدو كالتالي:
أدت التحولات المناخية التى شهدها عصر البليستوسين المتأخر مع تزايد الكثافة السكانية وسط أفراد بنى الإنسان إلى استنزاف الموارد النباتية والحيوانية بحيث تُظهر نسبة التكلفة / الفائدة المرتبطة بنشاط الصيد وجمع الغذاء تحولاً لمصلحة النشاط المرتبط بالزراعة وتربية الحيوانات. أدت تلك الظروف الناشئة إلى "اصطفاء" الاقتصاديات الزراعية والتجمعات المستقرة بما مكن المجموعات التى خاضت التجارب لتبنى الاقتصاديات الزراعية واقتصاديات الرعي من التكيف وإنجاز عملية إعادة إنتاج نفسها على حساب مجموعات الصيد وجمع الغذاء المتنقلة وغير المستقرة.
ويستثنى هاريس البيرو وبعض المناطق الأخرى التى شهدت نشوء أنماط حياة مستقرة مع تزايد في الكثافة السكانية رغم عدم ظهور اقتصاديات زراعية. يرى هاريس أن الظهور اللاحق للثقافات المعقدة قد جاء نتاجاً لتلك المجتمعات الزراعية المبكرة التى نشأت في بيئات ايكولوجية واجتماعية سمحت بإنجاز نمو طبيعي تحول من خلاله فرد واحد إلى زعيم مسئول عن اتخاذ قرارات حيوية تتعلق بتكثيف الإنتاج، وإعادة توزيع الموارد، وإدارة شئون الحرب والتجارة. بمجرد ظهور هذا النوع من الفرد "الإداري" يندفع المجتمع، تحت ضغوط التنافس مع المجتمعات المجاورة، وتحت ضغط النمو السكاني إلى درجات أعلى فأعلى للإنتاج المكثف والتراتب الاجتماعي. يكتب هاريس " تُظهر مثل تلك الأنظمة نزعة للتحرك من الأشكال المتساوقة لإعادة الإنتاج إلى أشكال غير متساوقة يحتفظ فيها الموزعون بالمزيد من المنتوج لفترات أطول فأطول … تتوقف الإسهامات في نسب إعادة التوزيع الاقتصادي تدريجياً عن أن تكون طبيعية … سريعاً ما تتحول إلى ضرائب في تلك اللحظة تصبح المشيخات على عتبة التحول إلى دول".
ويطرح هاريس فرضية تقول بأن الكثير من الدول المبكرة استخدمت الحرب والتوسع العسكري أدواتاً رئيسة للتحكم في النمو السكاني إذ بمجرد أن تتكون الدول فإنها تستمر في النمو بسرعة طالما أن المجتمعات المجاورة الأقل تعقيداً لا تملك سوى واحد من خيارين: إما أن تستسلم أو أن تتطور في الاتجاه نفسه.
ويفسر هاريس المسارات التطورية المختلفة للدول المبكرة، إلى حد كبير، باللجوء إلى استخدام عناصر النمو الايكولوجي الزراعي مثل المقدرات الأعلى على تكثيف إنتاج الحبوب وتطوير إستراتيجيات الرعي في جنوب شبه الجزيرة العربية مقارنة بالمحاصيل الجذرية والخنازير البرية، بمعنى توضيح الحدود الايكولوجية لنشوء المجتمعات الزراعية المبكرة بدقة إذ أنه بمجرد الوصول إلى كثافة سكانية معينة يصبح لدى الناس حافز قوى إما لتكثيف المنتوج تجنباً للمجاعة، أو إلى الهجرة إلى مناطق ذات كثافة سكانية أقل نسبة لمحدودية إمكانياتها الزراعية، بالتالي إلى مستوى معيشي أدنى.
إذا انتزعنا بعض المصطلحات الماركسية الكامنة في تفسير هاريس للتطور الثقافي فإن تفسيره سيبدو مشابهاً للتحليلات المعُبر عنها في المعالجات الايكولوجية الثقافوية من حيث التركيز على المحتم التقني البيئي، وعلى أهمية الضغوط السكانية، وبوجه عام نظرة للتطور الثقافي كما انعكست في العديد من الحلول المتعاقبة لإشكالات الموارد المتناقصة والكثافة السكانية المتزايدة والتنافس. ومن ثم نرى أن الانتشار الواسع لمثل هذه الأفكار يفرض علينا إجراء مراجعة نقدية دقيقة لمنطق المادية الثقافوية والمعالجات اللصيقة الأخرى.
مثلاً فإن البينة الآثارية المتوفرة حالياً تتعارض مع بعض الاستنتاجات التى توصل إليها هاريس بشأن أنقراض الصيد (الحيوانات الضخمة) في عصر البليستوسين. كذلك تشكك البعض من الباحثين في أهمية الضغوط السكانية بالنسبة لنشوء الثقافات المبكرة, إنَّ التفسيرات الوظيفية هي حجج تشير إلى وجود بعض عناصر / أو مركب عناصر في نظام بعينه تسهم في التنافس التكيفي لذلك النظام. من هذا المنطلق يفسر هاريس ظهور الزعماء في المجتمعات المعقدة المبكرة على ضوء المهام الإدارية التى يتم إنجازها من خلال هذه "الزعامة". ويواجه هذا النوع من التفسير قدراً من المحدوديَّة التى تتمثل في مشكلة الغائية المتساوية إذ أنه وبالنسبة لكل إشكالية تكيفية تطرحها بيئة ثقافية أو أية بيئة أخرى غيرها فإنه يمكن تصور بدائل وظيفية محتملة حلاً لتلك الإشكالية. فلماذا، على سبيل المثال، لم تطبق المجتمعات الزراعيَّة المبكرة تحكماً سكانياً أكثر صرامة، أو أن تنشئ مؤسسات تعاونية أو ديمقراطية أو مساواتية للتعامل مع مشكلاتها بدلاُ عن إنتاج "حل" تمثل في الزعماء؟ يقدم الماديون الثقافويون عادة إجابة يعتمدون فيها على تحليل النزعات النفسية، أو على تحليل التكلفة / الفائدة بالنسبة للاحتمالات الممكنة المختلفة ليدللوا على أن الزعماء (أو أية عناصر أخرى) هي الأكثر كفاءة. إن هذا الدفع يحتوى، في تقديرنا، على ما أسماه ليونتين في نقده الذى وجهه إلى البيولوجيا الاجتماعية بالفكرة الخاطئة القائلة بأن "المتقدم لهذا الغرض بالذات هو الفاعلية المكتملة".
يكون هذا "الخطأ المنطقي" أكثر وضوحاً عادة في العلوم البيولوجية في حالة العديد من التجارب التى يتم من خلالها عزل جانب من تاريخ حياة الكائن الحي بحسبان أن ذلك الجانب يؤلف إشكالية تستوجب حلاً. ومن ثم، وبطريقة نموذجية، يتم تحديد ما قد يكون حلاً أمثلاً للإشكالية عبر التحليل الهندسي في حالة محددات بيئية معينة. ويقاس الكائن الحي لتحديد مدى توافق السمة المعينة مع الحل الأمثل. في حالة النتيجة إيجاباً تصاغ حجة مقبولة توضيحاً لكون ظهور السمة إنما هو استجابة للإشكالية. أما في حالة النتيجة سلباً، أي بمعنى وجود تباين بين السمة من جانب والحل الأمثل من جانب ثان، فإنه يتم البحث عادة عن إشكالية ثانية … وثالثة سعياً لمعرفة ما إذا كان جزء من السمة يُظهر توافقاً مع إشكاليات عديدة، أو أن يكون، احتمالا، استجابة لمركب طاقة مختلف جداً. ويرى ليونتين، أنه في حالة توقر قدر من البراعة والمجهود الكافيين، سيكون ممكناً بهذه الطريقة مطابقة أية سمة لإشكالية تكيفية بحيث تكون النتيجة الحقيقية في نهاية المطاف عدم اختبار أي شئ.
يشكل هذا "الخطأ المنطقي" عنصراً مركباً في العديد من التحليلات المادية الثقافوية والايكولوجية الثقافوية. عادة ما يلجأ الايكولوجيون الثقافويون إلى وصف البيئات الطبيعية والثقافية القديمة لاستقراء الإشكاليات التكيفية التى يفترضون حلاً لها في الزعماء والحروب وما إلى ذلك.
الاتجاه البنيوي الماركسييقف البنيويون الماركسيون في مقدمة ركب الناقدين للاتجاهين المادي الثقافوى والإيكولوجى والثقافوى. تلجأ التفسيرات البنيوية الماركسية للتطور الثقافي إلى استعارة الكثير من المفاهيم التى أسسها كارل ماركس وفردريك إنجلز مثل مفهومي نمط الإنتاج والطبيعة الجدلية للتاريخ ويشمل مفهوم نمط الإنتاج بالنسبة لماركس كل من قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. ويرى ماركس أنه على أساس قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج تنشأ عناصر البنية وعناصر البنية الفوقية بحيث يصبح ممكناً تفسير التاريخ والتطور الثقافي من خلال تحليل أنماط الإنتاج المتبدلة. ومع أنَّ العديد من أنصار الاتجاهين المادي والثقافوى البنيوي الماركسي يظهرون قدراً من الاتفاق بشأن تعريف لقوى الإنتاج انطلاقا من مصطلحات تقنية بيئية أساسية (على سبيل المثال المناخ، والأنظمة الزراعية، والآليات … إلخ).
إلا أن القول بكون علاقات الإنتاج الاجتماعي وقوتها هي التى تحدد جوانب المجتمع الأخرى وتحتمها ظل إشكالية خلافية منذ فجر بزوغ التركيب الماركسي. بدون الخوض في خضم التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع المعقد والشائك نقول بأن معظم البنيويين الماركسيين يؤكدون على مقولة كون علاقات الإنتاج الاجتماعي هي التى تحتم شكل المجتمع ومحتواه وتاريخه. فعلى سبيل المثال يفسر فريدمان علاقات الإنتاج بحسبانها "تلك العلاقات التى تحتم الدورة الاقتصادية لعملية الإنتاج المادي في ظل شروط تقنية وإيكولوجية معينة في مرحلة معينة من تطور القوى المنتجة". ويعدد فريدمان نماذج الأشياء التي تحتمها علاقات الإنتاج الاجتماعي:
1- الاستفادة من البيئة في إطار الحدود التى تطرحها الإمكانيات التقنية.
2- تقسيم الأدوار في عملية الإنتاج، بمعنى من يقوم / ومن لا يقوم بالعمل الجسمانى.
3- أشكال الاستحواذ على الفائض الاجتماعي وأشكال توزيعه وكيفية استخدام الفائض الاقتصادي.
4- قيمة محسوبة اجتماعياً لنسبة الفائض والربح؟
هكذا يجادل فريدمان بأنه لا يمكن فهم أنماط التغير الاجتماعي وإدراكها بإرجاع الأدوار السببية الرئيسة إلى النمو السكاني وايكولوجيا الإنتاج الزراعي وغيرها من عناصر التقنية البيئية. وفي هذه النقطة تحديداً يتركز اعتراض فريدمان ونقده الموجه للمعالجات المادية الثقافوية والتحليلات الايكولوجية الثقافوية.
ويعبر سالينس عن الفكرة ذاتها من خلال محاولاته التأكيد على قوة عناصر البنية والبنية الفوقية على تحديد ظواهر البنية التحتية وذلك عبر اختبار المركبات "غير المنطقية إطلاقاً" في المجتمعات المعاصرة، ويتساءل عن الأسباب الكامنة وراء النظرية العاطفية لعلاقة الأمريكيين بالكلاب والخيول وتجنبهم أكل لحومها في الوقت الذى لا يوجد لديهم تحفظ تجاه أكل ملايين الأبقار . ويقول سالينس أن هذه الحقيقة قد تثبت عبث المحاولات الهادفة إلى تحليل الظواهر الثقافية وفق منظور يعزو أهمية قصوى للاقتصاد كما هو ملاحظ في المعالجات المادية الثقافوية والايكولوجية الثقافوية. ويرى سالينس "أن الظروف والجدوى المادية توجد بالنسبة للناس لا كحقيقة طبيعية وإنما كمركب ثقافي … الظروف الطبيعية لقابلية التطبيق (القوى الاصطفائية) تؤلف مجرد عوائق سلبية … حدود للإمكانيات الوظيفية التى تظل غير متجددة بالنسبة لجيل من الأشكال الثقافية المعنية". لهذا السبب يفترض سالينس أنه لا يمكن تفسير استعمال لحم الخنزير في مالينبزيا، أو أكل لحوم البشر عند الازتيك، أو نشوء المشيخات الأولى في بلاد ما بين الرافدين انطلاقا من متغيرات ديموغرافية أو ايكولوجية أو اقتصادية.."لا يستطيع الفرد منا أن يقرأ مباشرة من الظروف المادية إلى النظام الثقافي كما يقرأ من السبب إلى النتيجة أو من المتغيرات التقنية البيئية لا تمارس تأثريا بل أن كل شئ يعتمد على الطريقة التى تتداخل بها تلك الخصائص ثقافياً لتعطي تنظيماً له معنى من خلال نمط للتنظيم الثقافي". تحدد كل ثقافة تفاضلياً تلك الأشياء مثل "الصلة الوثيقة بين كافة الموارد الممكنة" وهى التى تحدد طريقة استخدام المورد وكثافة استغلاله وفق المنطق الثقافي الخاص بها.
وقد تمَّ التعبير عن مثل هذا الموقف، أي كون أنماط الإنتاج في أي مجتمع محدد تكون مركبة بصورة فريدة وفق المنطق الثقافي للمجتمعات التى توجد بها تلك الأنماط، في معظم التحليلات البنيوية الماركسية. هكذا نجد أن فريدمان يفترض أن نمط الإنتاج الواحد نفسه في المجتمعات المختلفة لا بدَّ وأن يتكيف مع بيئته الاجتماعية المعينة التى يؤدى فيها وظيفته. وبما أنَّ كل مجتمع يمكن أن يشكل خليطاً لأنماط إنتاج مختلفة تؤسس فيما بينها علاقات متنوعة داخل المجتمع، فإنه لا يمكن ظهور نمط إنتاج معين في "شكل نقى". يسود في كل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية نمط إنتاج رأسمالي، لكن يلاحظ أن التركيبات الاجتماعية في تلك البلدان تقوم على أنماط إنتاج متضاربة في علاقاتها بعضها بالآخر.
يعتمد تحليل ماركس للتاريخ على الافتراض بأنَّ التاريخ هو صيرورة جدلية تشتمل على توترات متعاقبة للفرضية، ونفي الفرضية (الفرضية المضادة)، والتركيب الذى ينفي الفرضية المضادة لكنه يحمل سمات الفرضية والفرضية المضادة ويحافظ عليها لكن في مستوى أعلى. المثال الذى اهترأ لكثرة استخدامه هو مثال البذرة (الفرضية) التى تنشأ عنها النبتة (الفرضية المضادة) وعودة النبتة إلى بذرة، لكن هذه المرة ببذرات عديدة (التركيب). في كل المواد التاريخية العينية – أي في الواقع الفعلي – يمكن ملاحظة هذه الصيرورة الجدلية التى تكون نتيجتها المسار الصاعد للتاريخ. الجانب التطوري تم توضيحه في أعمال انجلز لكنه كان أكثر تجلياً في كتابات ماركس "في مرحلة معينة من تطورها تدخل قوى الإنتاج المادي للمجتمع في صراع مع علاقات الملكية التى كانت فاعلة في إطارها. من أشكال لتطور القوى المنتجة تتحول تلك العلاقات إلى قيود تكبلها. حينها يبدأ عصر الثورة الاجتماعية". بالنسبة لماركس فإنَّ التطور الثقافي يحدث لا عبر تواتر مراحل مرتبة مسبقاً بل عبر انحلال المجتمعات عن طريق العملية الجدلية. لا يمكن لنمط الإنتاج المعين تبديل نفسه إلى نمط آخر طالما أنه يحتوى على تناقضات ستؤدى إلى فنائه.
ما هو، إذن، دور التحليل التاريخى؟ يرى أحد دعاة