بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإن نعم الله كثيرة: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
ومن نعم الله؛ بل أعظم نعم الله عز وجل إرسال هذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، فحالة العرب قبل بعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم حالة الضياع بين الأمم، ليس لهم كتاب فهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون.
الحالة السياسية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
وليس لهم دولة تجمعهم؛ بل هم متفرقون إلى قبائل، كل قبيلة تعتبر نفسها حاكمة فيما حولها، ويتقاتلون فيما بينهم، يغير بعضهم على بعض ويسبي بعضهم بعضا، ولا تقر لهم حال فيما بينهم، فكيف بهم مع غيرهم من أمم الأرض؟ وكانوا متفرقين بين الدول بين دولة الروم ودولة الفرس هذا من حيث السياسة.
الحالة الدينية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
من حيث الديانة بعضهم يدين باليهودية وبعضهم يدين بالنصرانية وبعضهم ليس نصرانيا ولا يهوديا وإنما يعبد الأشجار والأحجار والأوثان هكذا كانت حالتهم الدينية.
الحالة الاقتصادية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
حالتهم الاقتصادية كانت حالة الضياع يأكلون ما هب ودب وما وقع في أيديهم من أموال غيرهم فيأكلون الميتات والمحرمات وغير ذلك، هذه حالتهم الاقتصادية.
الحالة الاجتماعية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
وحالتهم الاجتماعية كما سمعتم حالة تنازع والتفرق والتقاتل والخوف، كل يخاف حتى الأخ يخاف من أخيه.
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
فلما بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منهم من العرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وكان الأنبياء في بني إسرائيل كلهم من ذرية إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام، أما العرب فليس فيهم نبي منذ عهد أبيهم إسماعيل إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل، وجعله خاتما للمرسلين، وإماما للناس أجمعين، رسالته عامة إلى أن تقوم الساعة، شريعته شاملة لمصالح العباد، صالحة لكل زمان ومكان، هذا أكبر النعم على هذه الأمة المحمدية، ولهذا ذكرهم الله بقوله: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) من قبل ما يعرفون القرآن ولا يعرفون كتاب، (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم، التزكية هنا التطهير، يطهرهم من الشرك، يطهرهم من الأخلاق السيئة، من النجاسات المعنوية ومن النجاسات الحسية، (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ) وهو القرآن، (وَالْحِكْمَةَ) وهي السنة النبوية والفقه في دين الله عز وجل، فأصبحوا أساتذة الدنيا بدل أن كانوا جهالا أجلافا أصبحوا سادة الدنيا في العلم والتعليم والفقه وسائر الأمور التي كانت الأمم قد استأثرت بها عنهم من قبل، فتحوا المشارق والمغارب بالدعوة والعلم والجهاد في سبيل الله حتى سقطت بأيديهم أكبر دولتين في وقتهم دولة الفرس ودولة الروم، أصبحت المملكة الإسلامية تشمل المشارق والمغارب كما قال جل وعلا: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فأظهره الله على الدين كله، وصار ما بقي من الأديان خاضعا لدين الإسلام، يدفع أهله الجزية، ويعيشون حتى حكم الإسلام، هذه أكبر نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض عموما وعلى العرب خصوصا.
نعمة القرآن:
وأنزل عليه قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ) يعني: القرآن شرف، ذكر يعني: شرف، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) عن هذه النعمة، هذه أكبر نعمة أنعم الله بها على هذه الأمة، ما تمسكت بها وسارت عليها كما قال صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِى كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّتِي"، أكبر نعمة يعيشها المسلمون إذا عرفوا قدرها وشكروا لله عز وجل، هذه النعمة العظيمة شكروها بالقول وبالاعتقاد وبالفعل، أما إذا كفروها زالت عنهم، وعادوا لحالتهم الأولى؛ ولكن الحمد لله أنهم لن يتفقوا على هذا فلا يكفر الناس كلهم أو يكفر المسلمون كلهم وإنما يبقى لدين الله من يقوم به: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ تَبَارَكَ وتَعَالى"، فالذي أنزل هذا القرآن تكفل بحفظه، فلا تمتد يد بالتغير والتبديل والتحريف لأن الله حفظه قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فهذا القرآن محفوظ بحفظ الله إلى أن ينتهي الأجل الذي أراده الله سبحانه وتعالى، فيجب على هذه الأمة جماعات وأفرادا أن يشكروا هذه النعمة العظيمة، وأن يتمسكوا بها وأن يعضوا عليها بالنواجذ قال صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ"، فمن الكفر بهذه النعمة أننا نترك التمسك بها ونحدث بدعا في الدين ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك بإيحاء من شياطين الإنس والجن، ودعاة الضلال، فالواجب التنبه لهذا، والشكر لهذه النعمة بالتمسك بها وتدارسها وتذكرها.
ماذا حل بالأمم السابقة التي كفرت بنعم الله عليها:
بني إسرائيل:
فإن الله سبحانه أخبرنا عن الأمم السابقة التي كفرت بنعم الله عليها ماذا حل بها؟ قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) يذكرهم بنعمته عليهم، (اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) فضلهم بإرسال الرسل وإنزال التوراة والإنجيل عليهم هذه نعمة عظيمة فلما كفروها وغيروا غير الله عليهم: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، فإذا غير الناس النعم بكفرها وعدم شكرها غير الله عليهم وسلبهم هذه النعم.
الثناء لنوح عليه السلام بشكره لله:
ولهذا أثنى الله على الشاكرين من عباده فأثنى على نوح عليهم السلام أول الرسل فقال: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) فأثنى عليه بالشكر، وكذا الله جل وعلا يثني على كل من شكر نعمته وقام بحقها.
قوم هود:
هود عليه السلام ذكر قومه بنعمة الله: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ماذا قالوا؟ (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ) هذه طبيعة الأولين، (إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فالله غير عليهم بأن دمر بلادهم وأرسل عليهم الريح العقيم، تنزع الناس من الأرض ترفعهم إلى السماء ثم تنكسهم على رؤوسهم تدق أعناقهم جزاءا على كفرهم بهذه النعمة وأنهم كذبوا نبيهم هودا عليه السلام لما ذكرهم بنعمته سبحانه وتعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ* تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) لأن لهم أجسام كبيره والله بس أعطاهم من الخلق بسطه، لهم أجسام كبيرة؛ لكن لما كفروا نعمة الله: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا).
قوم صالح:
صالح عليه السلام ذكر قومه بنعمة الله قال: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ* وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ* قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ) أنت مسحور، (فَأْتِ بِآيَةٍ) يعني: معجزة، (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ* قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ* وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ* فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ* فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ)،فقال تعالى فيهم: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً) لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، بيوتهم إلى الآن خاوية في الجبال ومنحوتة في الجبال ديار ثمود التي تسمى مدائن صالح، عبرة أبقاها الله عبرة لمن يعتبر، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، كان أهل مكة إذا ذهبوا إلى الشام يمرون على هذه الديار ولا يتعظون بها ويتذكرون ما حل بأهلها.
قوم محمد صلى الله عليه وسلم:
وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله ومنَّ به على هذه الأمة الأمية المنبوذة في الأرض، لما أرسل الله لهم هذا الرسول الكريم قال سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (لإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْف) يرحلون في الشتاء إلى اليمن للتجارة، وفي الصيف يرحلون إلى الشام للتجارة هذا من نعمة الله عليهم لم يشكروا، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) الذي هو الكعبة، الكعبة من نعم الله على العرب لأنه البيت الذي بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو أكبر نعمة بعد القرآن، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) ما قال فليعبدوا هذا البيت لان العبادة لله سبحانه وتعالى، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أغناهم من الفقر، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) هذا أكبر النعم.
نعمة الصحة في الأوطان والاستقرار في الأوطان:
فالصحة في الأبدان والاستقرار في الأوطان هذا من أكبر النعم على المسلمين، يجب شكرها عدم كفرها، لما لم يقبلوا هذه النعم قال الله جل وعلا فيهم: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً) يعني: أهل مكة، (كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ* وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) جاءهم رسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فكذبوه كفروا هذه النعمة فماذا حل بهم؟
حل بهم أن الله أزالهم وفتح مكة برسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وزالت سُلطة قريش على هذا البلد، لأنهم كفروا نعمة الله عليه، وهذه سنة الله في خلقه، فنحن إذا لم نشكر نعم الله علينا وكما ترون فإن الله بالمرصاد سبحانه وتعالى، الذي حل بمن قبلنا لما كفروا بنعمة الله يحلوا بنا: (أَلَمْ نُهْلِكْ الأَوَّلِينَ* ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ* كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ)، فعلينا أن نخاف الله سبحانه وتعالى.
أركان الشكر:
الشكر يا عباد الله، ليس هو باللسان فقط، الشكر له أركان ثلاثة لابد أن تتحقق جميعا فإذا فقد واحد منها لم يحصل الشكر، الأركان الثلاثة:
الركن الأول: التحدث باللسان، التحدث بنعمة الله باللسان وذكر النعمة لأجل القيام بشكرها، قال الله جل وعلا لنبيه: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، لما ذكر عدد نعمه عليه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى* فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ* وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) اذكر نعمة الله، (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) فلا تضف النعمة إلى غير الله، لا تضفها إلى نفسك، ولا إلى أحد؛ بل الله هو المتفرد بهذه النعمة التي وصلت إليك، فشكرها، أولا التحدث بها بلسانك، وذكرها بلسانك، ولا تقل هذه من فلان وعلان؛ بل قل هي من الله.
الركن الثاني: الاعتراف بها باطننا في قلبك، لأن هناك من يذكر النعمة ويحمد الله بلسانه لكنه لا يعترف أنها من الله؛ بل يرى أنه بحوله وقوته وجهده وكده وعمله وحذقه، كما قال قارون لما ذكره قومهم، قارون أتاه الله من الخزائن والأموال الشيء العظيم: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) الجماعة ما يحملون المفاتيح مفاتيح الخزائن من كثرتها، (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) يعني: فرح الأشر والبطر والتكبر، (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، ماذا كان جوابه المسكين: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) ليس لله فضل في ذلك، أن حصلته بكدي وكسبي، وخبرتي بالصنائع، وخبرتي بالتجارة، ما قال هذا من الله قال: أنا مستحق له عند الله ما هو فضل من الله، أنا مستحق على الله هذا، هذا حقي كما يقول كثير من الناس هذه حقوقنا هذا حقنا ما يقول هذا فضل من الله سبحانه وتعالى ومنَّ من الله فيحمد الله على ذلك وينظر إلى من حوله من الفقراء والمساكين؛ بل ينسب هذا إلى كده وكسبه وحيله وغير ذلك، وظيفته خبرته شهاداته إلى غير ذلك، لا، هذا من الله عز وجل، وإلا غيرك قد يكون غيرك أحذق منك وأعرف منك؛ ولكن الله ابتلاك امتحنك بهذا المال وهذه النعمة فشكر الله عليها.
الركن الثالث من أركان الشكر: صرفها في طاعة الله جل وعلا في طاعة المنعم، لا تصرفها في المحرمات، في الإسراف، في التبذير، في الأسفار إلى البلاد الكافرة للشهوات المحرمة، أصرفها في طاعة الله عز وجل، لا تصرفها في فتح المحلات التي تنتج الشرور، تنتج المعازف والمزامير، وتنتج الأغاني، وتنتج الآثام، المحلات التي ما تنتج إلا الشر تفتح على الناس باب شر تنشر الشر بمصانعك ومحالاتك هذا من كفر النعمة، كفر بالعمل، الله جل وعلا قال لنبيه سليمان لما علمه ما علمه وأعطاه من الملك ما أعطاه قال له: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ) يعني: لما أعطى داود عليه السلام أعطاه الله أنه علمه صناعة الدروع: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) وهي الدروع (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ* يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ) فسمى العمل الصالح بالمال الصالح سماه شكرا لله عز وجل، وهذا يدل على أن العمل السيئ من المال فتح المحلات الفاسدة، المنتجات الفاسدة، الأسفار المحرمة، الشهوات المحرمة التي ينفق المال فيها هذا كفر لنعمة الله سبحانه وتعالى.
قوم سبأ:
ضرب الله لنا مثلا بقوم سبأ في اليمن: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ) وهي: قبيلة في اليمن (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) بلاد سبأ لأن فيها وادي كبير وقد عملوا له سدا يجمع السيول ثم يصرفونه على مزارعهم ومنتجاتهم فذكرهم الله بهذه النعمة، جنتين عن يمين الوادي وعن شمال الوادي تثمران الثمار الكثيرة (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا) أعرضوا عن شكر الله عز وجل وأمر الله كفروا نعمة الله وبطروا، (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) سلط الله على هذا السد جرذان الجرذان الصغيرة ينقب في هذا السد وهم لا يشعرون حتى خرقه فنهار السد وسالت المياه عليهم وعلى ديارهم ومزارعهم فأصبحت أن لم تكن (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) بسبب انهيار السد الذي نمت عليه هذه المزارع وتنوعت به هذه الثمار سلط الله عليهم جندا ضعيفا فنقبه.
ولا تحتقر كيد الضعيف بضعفه *** فكم أفسد الجرذان من سد مأرب
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) انبثق عليهم هذا السد فأهلك مزارعهم وديارهم ثم تفرقوا في البلاد، صاروا يضرب بهم المثل في التفرق، تفرقوا في الجزيرة العربية أحد راح للشام، وأحد راح استوطن المدينة، وأحد راح للعراق، بدل أن كانوا مجتمعين في سبأ (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) فهذه عاقبة كفران النعمة وعدم شكرها.
أيضا مما أنعم الله به عليهم أن الله أمن السُبُل بينهم وبين الشام وجعلها محفوفة هذه السُبُل بالثمار والمزارع يأكلون ولا يحملون معهم الزاد: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) وهي قرى الشام، (قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ) فكانوا لا يحملون الزاد لأنهم ينتقلون من قرية إلى قرية ويأكلون من البلد التي ينزلونها، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ) ماذا قالوا في مقابل ذلك؟ (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) يقولون والله ملينا من هذه النعمة نريد بر ما في شيء برا قاحل ما في شيء، ما نريد هذه النعمة (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) - والعياذ بالله -، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ* فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) ظلموا أنفسهم بكفر النعمة ولم يشكروها، (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) تحدث الناس عنهم وما أصابهم، (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) فرقناهم في الأرض بدل إن كانوا مجتمعين على هذه النعمة، فهذه عاقبة من كفر نعمة الله عز وجل ولم يشكرها.
نعمة الطعام:
من شكر النعمة احترام الطعام وتوقير الطعام وعدم الإسراف في الأطعمة ونبذها إذا أكل منها الشيء اليسير ينبذ الباقي في القمامات، الموائد الكبيرة يؤكل منها الشيء اليسير والباقي يلقى في القمامات هذا من كفر النعمة، نسأل الله العافية، من كفر النعمة الذي يخشى علينا من عقوبتها، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا ولْيُمِطْ ما عَليهَا من الأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا" اللقمة الواحدة فكيف بالأطعمة الكثير والموائد العظيمة التي تفرط وتنثر في القمامات؟ ثم ليأكلها، ورأى صلى الله عليه وسلم تمرة في الطريق فأخذها بيده الشريفة وقال: "لَوْلاَ أَنِّى أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الزكاة لأَكَلْتُهَا"، لكن رفعها من الطريق ما تركه، ومنعه من أكلها أن تكون من الزكاة لأن الله حرم على محمد وآل محمد الزكاة، هذا من تقدير النعمة وتوطين النعمة وعدم إهدارها.
فليكن لنا بذلك عبرة وعظة يا عباد الله ولنخشى أن يصيبنا ما أصاب من حولنا من التمزق والتفرق والفقر والفاقة وصعوبة العيش، وصعوبة الحياة، ونحن في أمن وأمان، ورزق وافر ونعمة عظيمة، ومعرفة للحق، وعقيدة صحيحة هذه نعم عظيمة، يجب علينا أن نشكرها شكرا حقيقيا ليس شكرا باللسان فقط نشكرها باللسان، نشكرها بالقلب، نشكرها بالتصرف فيها أن نتصرف فيها تصرفا حسنا ولا نبطر ولا نتكبر عن نعم الله عز وجل.
استغفر الله وأتوب إليه ولا أحب أن أطيل عليكم أكثر من هذا، ربما إنكم في حاجة إلى النوم والراحة ونكتفي بهذا، وما قل ودل خير مما كثر وأمل.
صلى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
***