admin
Time Online : 1d 14h 59m 25s عدد المشاركات : 94883 أنــــــــــــا جنسي هو : أنا جنسيتي هي : احترام القوانين : الوسام الممنوح للعضو : : 138749812 29015
| موضوع: إبيستيمولوجيا اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة 05.12.10 22:12 | |
| إبيستيمولوجيا اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة
يفتح الاختبار الإبيستيمولوجي المجال لفقه الذات بصياغة جديدة للأسئلة في خصوص النظر اللساني وحدوده وأشكاله ورسومه، فكما تتساءل اللسانيات عن أحوال اللغة وطرق جريانها لتصفها وتفسرها وتكشف عن منطق تصريفها... تتساءل إبيستمولوجيا اللسانيات عن هذا الخطاب ( الميتالغوي) ذاته، بقصد الكشف عن منطقه واستلزاماته وأصوله و مناهج تحققاته[1].
لا مراء في أن النماذج اللسانية العربية توحي بالاختلاف والتعدد، ولكنها، في الوقت نفسه، تفرض أسئلة من قبيل : ماذا قدمت هذه الكتابات المختلفة المتعددة للغة العربية؟ ما هي أسسها النظرية وأصولها المعرفية؟ وما هي شروط العلم والمعرفة التي تحكمت في صياغتها ونمذجتها؟ وكيف بنت نماذجها اللسانية، إن بنتها فعلا؟
لعل هذه الأسئلة وغيرها تدخل مباشرة في مبحث إبيستمولوجي محض لا يهتم فقط بالتحليل النحوي والبناءات اللسانية، بل بما ترتكز عليه من شروط علمية وتحيل عليه من مراجع وأسس نظرية[2].
أولا: الإبستومولوجيا : تحديدات أولية:
إن مصطلح » الإبستومولوجيا Epistémologie مصطلح جديد (...) صيغ من كلمتين يونانيتين Epistémè ومعناها : علم ، وlogos ، ومن معانيها : علم، نقد، نظرة، دراسة ... فالإبستومولوجيا ، إذن، من حيث الاشتقاق اللغوي هي "علم العلوم" أو "الدراسة النقدية للعلوم" ... و هذا ما يختلف كثيرا عن معناها الاصطلاحي«[3].
ويحدد أندري لالاند مصطلح إبستومولوجيا بالقول: تعني هذه الكلمة فلسفة العلوم، ولكن بمعنى أكثر دقة فهي ليست دراسة خاصة لمناهج العلوم، لأن هذه الدراسة موضوع للميتودولوجيا وهي جزء من المنطق، كما أنها ليست أيضا تركيبا أو توقعا حدسيا للقوانين العلمية (على الطريقة الوضعية)، إنها، بصفة جوهرية، الدراسة النقدية للمبادئ والفرضيات والنتائج العلمية، الدراسة الهادفة إلى بيان أصلها (المنطقي لا النفسي) وقيمتها الموضوعية. وينبغي أن نميز الإبستومولوجيا عن نظرية المعرفة، بالرغم من أنها [center][b]مقدمة لها، وعمل مساعد لا غنى عنه، من حيث إنها تدرس المعرفة بتفصيل، وبكيفية بعدية في تنوع العلوم والموضوعات لا في وحدة الفكر« [4] .
استنادا إلى هذين التحديدين تكون إبيستمولوجيا اللسانيات العربية مقاربة تهتم بصورة المعرفة اللسانية في ثقافتنا، بغية تقويمها من جهة أسسها ومبادئها المصرح بها أو المسكوت عنها. وإذ تبين لنا أن النقد أساس من أسس التفكير الإبيستمولوجي فإننا نتساءل: هل خضعت الكتابة اللسانية العربية لأسس النظر النقدي السليم؟
قبل الاهتداء إلى إجابة عن هذا السؤال نشير إلى أن تأطير عمل ما في خانة التحليل الإبيستمولوجي يقتضي أن تكون مقدمة الانطلاق هي الكشف عن المقدمات الاستلزامية للنظر الإبيستمولوجي، وهي مقدمات نهتدي بواسطتها إلى استخلاص العبر المعرفية والقيم الإبيستمولوجية للسانيات مادامت الإبيستمولوجيا تقويما لنوع خاص من المعارف هو المعرفة العلمية[5]. فما هي المقومات التي تجعل من معرفة ما معرفة تمتلك حجية النظر الإبيستمولوجي؟
إن الحدود التي وقفنا عليه آنفا لا تتعدى حدود ربط المعرفة الإبيستمولوجية بالنقد. وحتى بالاحتكام إلى هذا الربط البسيط، فالملاحظ أن معظم الكتابات اللسانية العربية تفتقر إلى حجية النظر النقدي السليم، لذلك يتعين علينا تبيين المياسم التحديدية الدقيقة للإبستومولوجيا قصد الكشف عن أوجه التداخل بينها وبين بعض الدراسات المعرفية المتاخمة لها و من ذلك: " فلسفة العلوم"، و " نظرية المعرفة " و" الميتودولوجيا " و " تاريخ العلوم ".... ففي ضوء هذا التداخل بين هذه الفروع المعرفية يمكن الاهتداء إلى طبيعة الممارسة الإبستمولوجية عامة و إبستمولوجيا اللسانيات خاصة[6]:
1 ـ الميتودولوجيا: من اليونانية (Méthodos), و معناها الطريق إلى... المنهاج المؤدي إلى ... هي علم المناهج، و المقصود تحديدا مناهج العلوم. و المنهاج العلمي هو جملة من العمليات العقلية، و الخطوط العملية، التي يقوم بها العالم، من بداية بحثه حتى نهايته من أجل الكشف عن الحقيقة و البرهنة عليها.
2 ـ نظرية المعرفة:Gnoséologie و تختص بالبحث في إمكانية قيام معرفة ما عن الوجود بمختلف أشكاله ومظاهره. و إذا كانت المعرفة ممكنة، فما أدواتها، و ما حدودها، وما قيمتها؟
3 ـ تاريخ العلوم: إن كل بحث عن الأسس التي يقوم عليها الفكر العلمي يستوجب بحثا في تاريخ العلوم. يقول بوترو (P.Boutroux): » إن تاريخ العلوم، مدروس بشكل ملائم، يزيد من حظوظنا في اكتشاف أسس التفكير العلمي واتجاهاته«[7].
4 ـ فلسفة العلوم: لا يمكن تعريف المقصود بفلسفة العلوم تعريفا محددا، و مع ذلك يبقى كل تفكير في العلم، أو في أي جانب من جوانبه، في مبادئه أو فروضه أو قوانينه، في نتائجه الفلسفية أو قيمته المنطقية و الأخلاقية، هو بشكل أو آخر" فلسفة العلوم ".
فما هي علاقة الإبستومولوجيا بهذه التحديدات؟
تتكامل الإبستومولوجيا مع الأبحاث المعرفية التي أشرنا إليها، على هذا النحو[8] :
ـ ترتبط الإبستومولوجيا بالميتودولوجيا من جهة تناولها لمناهج العلوم، ليس من الزاوية الوصفية التحليلية و حسب، بل و بالأخص، من زاوية نقدية وتركيبية أيضا.
ـ و ترتبط بنظرية المعرفة بمعناها العام من حيث إنها تدرس طرق اكتساب المعرفة و طبيعتها وحدودها، و لكن لا من زاوية التأمل الفلسفي المجرد، بل من زاوية فحص المعرفة العلمية و التفكير العلمي فحصا علميا ونقديا قوامه الاستقراء و الاستنتاج معا.
ـ و هي ترتبط بتاريخ العلوم من حيث إنها تدرس تاريخ العلم، و لكن لا لذاته، بل من زاوية كونه مسلسلا لنمو الفاعلية البشرية، الفكرية خاصة، التي هي عبارة عن تحقق إمكانيات الذات في فهم العالم وتغييره، و بالتالي تحقق إمكانيات وعي الذات بنفسها و قدراتها و حدودها.
ـ إنها إذن، فلسفة للعلم، تتلون بلون المرحلة التي يجتازها العلم في سياق تطوره، و تقدمه، و من هنا طابعه العلمي، و بكون الفلسفات التي تقوم خلال كل مرحلة، أو عقبها مباشرة. و بناء على ما سبق تكون الإبستومولوجيا والأبحاث الأخرى بمثابة حد واحد، و كل فصل بينها يبقى فصلا غير واضح كما هو الحال في التقليد الفرنسي (كونت، و باشلار، و كانغيلم...), و الأمر نفسه يلاحظ أيضا عند بعض الكتاب الأنكلوساكسونيين[9].
غير أن هذا التداخل لا يحول دون وجود بعض التعريفات التي تحاول أن تضع مياسم تحديدية واضحة للإبستومولوجيا كأن تجعلها تخصيصا للمعايير التي توصل إلى أشكال المعرفة[10]. أو فرعا من فروع الفلسفة يهتم بطبيعة و أهداف المعرفة، و بمسلماتها، و أسسها...[11] .و نجد من يعتبر الإبستمولوجيا فلسفة بشكل خالص لأنها تسائل العلم بواسطة مقولات فلسفية[12].و هي أيضا خطاب عقلاني عن المعرفة بالمعنى الذي تكون فيه المعرفة تقنية، في مقابل الرأي (L'opinion) أو الاعتقاد (Croyance)، و هي " نظرية المعرفة" أي طبيعة المعرفة الإنسانية و ميكانيزمها و مداها [13].كما نجد من يربط الابستمولوجيا بالمنطق» من حيث إنها كالمنطق تدرس شروط المعرفة الصحيحة. و لكنها تختلف عنه من حيث إن المنطق يعنى بصورة المعرفة فقط. في حين أنها تهتم بصورة المعرفة و مادتها معا، و بالأخص بالعلاقة القائمة بينهما«[14].
وعموما يمكن القول إن المتابعة الدقيقة للكتابات التي تروم حصر الممارسة الإبستيمولوجية و فهم آليات اشتغالها و حدودها- تكشف عن مرونة واضحة في حصر هذا المفهوم، و لذلك وجب التمييز في تلك الكتابات بين زاويتين مختلفتين :
1- زاوية تاريخية تكشف عن رؤية نوعية لهذه الممارسة انطلاقا من منظور إبستيمولوجي و ارتباطه بمدرسة معينة.
2- زاوية معرفية : تعكس مرونة المفهوم و صعوبة حصره في تعريف جامع مانع، و هي مرونة مستمدة من طبيعة الممارسة الإبستيمولوجية ارتباطها الجدلي بالمعرفة العلمية، و لا يهمنا من التحديدات السابقة التوصل إلى تحديد ما هوي، بقدر ما يهمنا الجانب العلائقي في التعريفات.
إن أهم المياسم التحديدية التي يتم التركيز عليها في تعريف الإبستومولوجيا :
أ- التمييز بين دراسة مناهج العلوم، باعتبارها دراسة وصفية، و بين الإبستومولوجيا من حيث إنها دراسة نقدية تدرس أسس و نتائج العلوم.
ب- التمييز بين الإبستومولوجيا من جهة و بين الميتودولوجيا و فلسفة العلوم، بمعناها العام، من جهة أخرى.
ج- الإبستومولوجيا دراسة نقدية موضوعها المعرفة العلمية من حيث فرضياتها، و مبادئها و نتائجها.
ثانيا: إبستومولوجيا اللسانيات العربية: المنطلقات و التوجهات.
يمكن أن نميز، في الكتابات اللسانية العربية التي تسعى إلى امتلاك حجية النظر النقدي بين ثلاثة اتجاهات كبرى:
-كتابات نقدية عامة: موضوعها الكتابة اللسانية العربية بشكل شمولي.
-كتابات نقدية خاصة : تتجه صوب أحد الاتجاهات اللسانية، أو أحد اللسانيين.
ويلاحظ على هذين النوعين من الكتابة النقدية غياب مساطر واضحة في التقويم النقدي كما سنبين.
- كتابات نقدية مؤسسة : تروم إعمال النظر في الكتابة اللسانية العربية، و نقد و تقويم الكتابة اللسانية المتداولة في الثقافة العربية تقويما معقولا، بالاستناد على أسس نقدية واضحة المعالم.
فما هي خصوصيات كل اتجاه ؟ و ما الذي يميزه عن غيره من الاتجاهات الأخرى؟
1. الكتابات النقدية العامة :
يوجه النقد - هنا - إلى اللسانيات العربية في عموميتها دون تمييز بين نماذجها و اتجاهاتها، ودون الكشف عن الأسباب الحقيقية وراء الوضع المأزوم الذي تعيشه. و مما يركز عليه في هذا الاتجاه تخلف اللسانيات العربية، فهي » لم تثبت أقدامها بعد بالقدر الكافي، و لا تزال تفصل بينها و بين المستوى الذي بلغته في جامعات الغرب هوة كبيرة «. وأن » ما تقدم به معظم الباحثين المحدثين أتى قسم منه موغلا في القدم شكلا و مضمونا (...) بينما جاء القسم الآخر، على أهميته، عرضا، إن لم نقل ترجمة حرفية لما أطلقه رواد هذا العلم منذ مطلع القرن العشرين إلى يومنا هذا «[15].
و كثيرا ما يكون النقد في هذا الاتجاه بدافع الحماس و الانتصار لاتجاه لساني معين، حيث يلجأ الباحث إلى تخطي الاتجاهات الأخرى، و يعتبرها غير ذات جدوى، هذا شأن ريمون طحان الذي رأى أن » أكثر الدراسات التي طبقت على أنها دراسات حديثة هي في الواقع دراسات تقليدية تساق فيها المعلومات و النظرات و الآراء، دون غربلة أو تمحيص، حتى أن من يطالعها لا يشعر بلعثمة أو هزة ناجمة عن حرارة في رأي واضعيها، بل على عكس ذلك يحس و كأنها فقدت عنصر التجديد فيقف الباحث محاولا أن يحد منها المعلومات القيمة فيعرض عنها لأنها مملوءة بالتعليلات المرهقة و بالألغاز والتمويه« [16]. غير أن مقصدية هذا الباحث سرعان ما تتضح الغاية منها بدعوته إلى ضرورة تبني الاتجاه البنيوي في التحليل[17].
2. الكتابات النقدية الخاصة :
تستهدف أحد اللسانيين أو إحدى المدارس اللسانية، و أحيانا يركز على فرع من فروع الدراسة اللسانية، و يرجع هذا الاختلاف إلى طبيعة الكتاب الذي ورد فيه النقد، و ما يلاحظ عموما على هذا الصنف من الكتابة النقدية تجاوزه، في أحيان كثيرة، لحدود اللياقة العلمية لينزاح عن أهدافه و يتحول من لسانيات إلى تلاسن[18].
يمكن أن نمثل لهذا الصنف من الكتابة النقدية بما كتبه سعد مصلوح في مراجعته لكتاب في "صوتيات العربية". يقول : » لهذا كله [يقصد ما عرضه مؤلف الكتاب] رأيته واجبا علي أن أتناول هذا الكتاب ، لا بالعرض الناقد ، فليس فيه من مسائل الخلاف كثير و لا قليل ، و إنما بالتنبيه إلى ما ضمنه بين دفتيه من أخطاء في أوليات الدرس الصوتي و بديهياته، التي لا يعزب بعضها عن علم النجباء من الطلاب بله الأساتذة المتخصصين ، و أحسب أن القيام بهذا الواجب فرض كفاية على كل من أتاه الله أثارة من هذا العلم ، فالكتاب مطبوع و كاتبه أستاذ جامعي ، و المكتبات إنما تقتني الكتب بعناوينها ، و بألقاب مؤلفيها دون فحص سابق يمتاز به الصحيح من السقيم ، و أيدي الطلاب تمتد إليه رغبة في المعرفة ،و طمعا في الفائدة ، و قد تعتقد كثيرا منهم من يقود خطاه على الطريق ، و تجنبه مواطن الزلل ، فيأخذ ما بها من أخطاء مأخذ الحقائق المفروغ من صحنها ، و هنا تنفض على العالم و المتعلم كليهما غايتهما من الدرس و التحصيل ، و تؤتى الحقيقة من حيث لا تحتسب ، فتكون القارعة « [19] .
و يضيف معيبا فصلين من فصول الكتاب نفسه: » في هذين الفصلين عيوب ظاهرة، منها التداخل و التجميع السطحي للمعلومات، و ضعف الصلة بين منحاها و موضوع الكتاب، و ابتسار المعالجة و غموضها، و يتجلى ذلك واضحا في العناوين الأصلية و الفرعية الواردة في الفصلين من مثل قوله: " موجز في تاريخ عدة ظواهر لغوية "، و في حشد الأسماء و التواريخ دون نفع يرجى، أو غاية تدرك «[20].
غير أن ما يلاحظ على مصلوح هو عدم تصريحه بالأصول النظرية و المنهجية التي اعتمدها في مؤلفه الذي اختار لـه عنوان " دراسات نقدية في اللسانيات العربية المعاصرة ". و يستمد هذا السؤال مشروعيته من مضمون الكتاب الذي تضمن دراسات لا علاقة لها باللسانيات. و إذا كان نقد مصلوح يتجه إلى مؤلف محدد من المؤلفات الصوتية، فإننا نجد من يطلق العنان لنقد الصوتيات بشكل عام ، فقد ذهب أحمد مختار عمر إلى أن » المكتبة العربية ما تزال فقيرة جدا في البحوث المتعلقة بعلم الأصوات« [21] ، و هو بهذا الاطلاق يسوغ لنفسه تأليف كتاب في الموضوع و هو النهج الذي تسير عليه كتابات أخرى في تعاملاتها مع بعض فروع اللسانيات.
و يتخذ النقد وجهة أخرى، تركز على متابعة إحدى النظريات اللسانيات، أو أحد أتباعها، وهذا يفسر الصراع بين التوجهات اللسانية في الثقافة العربية، نقف على مظاهر من هذا النقد عند محمد الحناش في نقده لأحد اللسانيين المغاربة وللاتجاه التوليدي عموما، يقـول : » مــن المعضــلات التــي ما زال البحث العلمي يئن تحت وطأتها في هذا البلد، أن كل من تعلم كيف يحل عن لسانه عقدة التلعثم يحسب أنه برع في جميع ميادين المعرفة ، فيشرع في نشر تجاربه الأولى على أبيض الصفحات، واهما أنه يقول شيئا عظيما، لكنه لا يعدو أن كونه يضرب أخماسا في أسداس، و حتى يضفي على أوهامه طابع المشروعية، فإنه يتوجه إلى مقارعة الحجة بالباطل والبهتان ناهشا في أعراض الناس لا يدري أحد ما الذي ألم به ، فتراه يثير زوبعة لا تحمل معها إلا أصداء أقوام ذهبوا و انقضى أجلهم بعد أن فاتهم الركب . إنه يحاول جمع أشلاء عظامهم لعله يعيد صنع آدميتهم من جديد، ذلك هو حال توابع و زوابع النحو التوليدي في هذا البلد، أو بلغة العصر الإنسان الآلي التوليدي عندنا، و ذلك هو ديدنهم في التعامل مع النظريات المخالفة لما يؤمنون به. يرفضونها قبل مناقشتها . إنه العقم و الانغلاق على الذات « [22] .
و يلاحظ أن هذا الباحث لا يقصر نقده على من يهمه أمره، بل نحا باللائمة على كل التوليديين، وعلى النحو التوليدي، ورآه نحوا تجريديا.دون أن يبين مظاهر هذا التجريد.
و نلفي أشكالا أخرى من نقد اللسانيات من خارج دائرة اللسانيات. نقف على جوانب من هذا النقد عند علي حرب من خلال كتاباته، و خصوصا كتابه :" الماهية و العلاقة نحو منطق تحويلي "، حيث خصص فصلا لنقد تشومسكي تحت عنوان : تشومسكي و مأزق النحو التوليدي [23]، و قد عاد في كتاب آخر بعنوان :" أصنام النظرية و أطياف الحرية " ( نقد بورديو و تشومسكي ) ليقوم بالشيء نفسه، و على غرار ما فعله في الكتاب الأول خصص القسم الثاني من الكتاب لنقد تشومسكي في فصل عنونه بـ:تشومسكي من الناطق الفطري إلى الفاعل اللغوي[24].
و الملاحظ، من قراءة هذين الجزءين، أن حرب تناول اللسانيات التوليدية من جوانب لا تدخل في مجال اختصاصه، و هذا ما يمكن أن يساهم في خلق وعي مغلوط بالعديد من القضايا اللسانية، التي تستعصي أحيانا حتى على المختص.
و لا يخلو النقد اللساني، في ثقافتنا، من النفاق العلمي، الذي ينطلق أحيانا من اعتبار " المناسبة شرط" ، فتأتي الأحكام متباينة بتباين المناسبات، هذا ما لاحظناه في مهاجمة الراجحي للسانيي المغرب العربي، و خاصة التوليديين منهم، وهو نقد يعبر عن آراء مناقضة لما سبق أن عبر عنه في مناسبة أخرى[25].
و في مقابل هذا النقد الذي يضمر كل أشكال القسوة و العداوة و الصراع، يتخذ النقد وجهة أخرى يتحول معها إلى حمل كل أشكال التمجيد و التنويه، هذا ما نقرأه عند عبد الفتاح المصري في عرضه لكتاب عبد السلام المسدي : التفكير اللساني في الحضارة العربية ، يقول عن مضمون هذا الكتاب : » أما المضمون فسأسعى فيما يلي إلى تلخيصه، و لابد من الإشارة في البدء إلى أن البحث طويل، و الفكر فيه غنية، و الاستنتاجات متتابعة على نحو يصعب فيه التلخيص و الاستغناء عن بعض هذه الفكر و الاستنتاجات لأهميتها و دورها في إيضاح جوانب القضايا المطروحة « [26]. ليصل بعد ذلك إلى الحديث عن الأمل المعقود على الكتاب : » و في يقيني أن هذا الأمل بدأ يتحقق ، فها هو ذا أحد هؤلاء اللغويين قدم إ لينا واحدا من الكتب المنهجية التي نحن بأمس الحاجة إليها ، يسهم به في شق الطريق في مجاهل التراث اللغوي العربي، ليسلكه غيره نيرا واضحا ، فيستطيع أن يصل فيه إلى غايته من إبراز لدور العرب في بناء صرح الحضارة الإنسانية في غابر الزمن و حاضره « [27] .
إن جوانب النقد، التي عرضنا لها آنفا، تنم عن وجود وعي نقدي بدأ يعرف طريقه إلى الثقافة العربية، غير أن الملاحظ هو أن أغلب المحاولات في هذا الاتجاه تظل ناقصة، من جهة افتقارها لمقولات العمل النقدي السليم، و هذا ما تسعى الكتابات النقدية المؤسسة إلى تجاوزه.
3. الكتابات النقدية المؤسسة :
يعتمد هذا النقد على محددات نظرية ومنهجية تضمن للناقد تماسكا واضحا، من خلال الربط بين المقدمات و النتائج، و صياغة الأسئلة و الإشكالات قبل أن يتجه للإجابة عنها باعتماد الانسجام و التماسك في التحليل مما يستجيب لقيد النسقية [28] ، و إن كان الالتزام بهذه القيود لا يعني دائما توفقا و نجاحا كليين .
و إذا كان مثل هذا النقد قليلا و حديثا على الكتابة اللسانية العربية، و حتى الغربية، فإننا لا نعدم بعض الكتابات الحديثة التي وفقت في رسم معالم واضحة لهذا الاتجاه في الثقافة العربية، و من أبرز الكتابات في هذا الصدد، نذكر:
أ- رياض قاسم : الذي تتبع جهود اللغويين في لبنان من سنة 1801 إلى سنة 1960 ، و عرض لها بالتحليل و النقد، يقول : » و كان علي أن أعرض لكل رأي، و لا أرفضه لمجرد الرفض، جاعلا النقد العلمي الهادئ خاتمة لكل مبحث أو رأي«[29].
ب- الفاسي الفهري : عبر عن موقفه الصريح من الكتابات اللسانية العربية الحديثة، حيث رأى أن ما يكتب هو » خطاب لساني هزيل « [30] ، لكونه يفتقد لمقومات الخطاب العلمي، و ترجع هزالة هذا المنتوج إلى جملة من المغالطات المترسخة منها :
- اللغة الموصوفة و أزمة المنهج
- ادعاء العلمية و المنهجية
- تصور خاطئ للتراث
- تصور خاطئ للغة العربية[31].
ج- أحمد العلوي : قدم العلوي مشروعا إبستمولوجيا لقراءة اللسانيات، وهو مشروع يعتمد أصولا و منطلقات خاصة في القراءة ، تعتبر القرآن أصلا معرفيا، مع التمييز بين مراتب القول ( القول الحقيقي، القول الطبيعي، القول التجسسي، القول النظري )، و قد قدم العلوي في كتاباته نقدا لبعض الباحثين العرب، كما يظهر من نقده لتمام حسان و محمد أركون ... ، كما نجد عند العلوي نقدا واضحا للاتجاه التوليدي.و يفضي النظر فيما قدمه الباحث إلى أنه يهدف إلى وضع ضوابط للنظر اللساني، قوامه التشكيك في هذا الإطلاق العربي و الغربي.
إن إدخال العلوي القول القرآني في المذاكرات الثقافية، هو دعوة صريحة إلى إماطة اللثام عن التناقض الذي يعيشه المسلمون، إذ كيف يعقل أن نعد القرآن حقا مؤلفا بالمقدمة الإيمانية، و في الوقت نفسه نخرجه من القول الثقافي، و كأنه حق صغير، أو حق في كل شيء إلا في المذكرات الثقافية[32].
د- مصطفى غلفان : خصص كتاباته لنقد اللسانيات العربية الحديثة، معتمدا في ذلك، على أسس إبستيمولوجية تستمد أصولها من الإبستومولوجيا المعاصرة .
هـ- عبد السلام المسدي: ضمن بعض كتاباته آراء نقدية للتجربة اللسانية في الثقافة العربية، وخصوصا في كتابيه : اللسانيات وأسسها المعرفية ومباحث تأسيسية في اللسانيات.
- عز الدين المجدوب: سعى في كتابه المنوال النحوي العربي إلى تدارك هفوات و نقص القراءات النقدية للتراث النحوي العربي، اعتمادا على إطار نظري، بدونه لا يمكن صناعة تأويل مثيل للتراث النحوي، و توضيح علاقته باللسانيات، و بالتالي علاقتنا به .
و قد انطلق ، في نقده ، من التمييز بين مفهومين أساسين :
- الفرضيات العامة
- المنوالات
وهو تمييز معهود في فلسفة العلوم Epistémologie والمنطق، والعلوم الصحيحة، و يمكن اعتماده من إدراك دقيق لما يميز التفكير العلمي الحديث من الممارسة العلمية التي سبقته[33].
وعموما فإن الكتابات التي تحسب على هذا التوجه تعتمد التحليل النقدي السليم » الذي يستطيع أن يخلق بينه و بين العلم المستهدف نقدا و حوارا علميا مثمرا تكون لـه نتائج نظرية و منهجية أو تطبيقية في مجال معرفي معين « [34]. غير أن الملاحظ أن معظم هذه المحاولات، على أهميتها، واختلاف منطلقاتها، تبقى في حاجة إلى أبحاث أخرى تتمم ما بدأته. فمحاولة رياض قاسم جاءت محصورة بحدود زمانية (1801 – 1960)، و حدود مكانية لبنان. و تجربة عز الدين المجدوب ركز فيها بشكل خاص على القراءات النقدية التي اهتمت بالتراث النحوي العربي. أما ما كتبه عبد القادر الفاسي الفهري في مجال النقد فهو يندرج ضمن اهتمامات لسانية أخرى، و لا يمكن أن ندرجه في المجال النقدي الصرف، والملاحظة نفسها تصدق أيضا على بعض كتابات عبد السلام المسدي. و يبقى المشروع الإبستيمولوجي لأحمد العلوي، على أهميته، خاصا من جهة مقدماته المعرفية.
وبالنظر إلى أهمية هذا الاتجاه والدور الذي يمكن أن يلعبه في خلق ممارسة ابستيمولوجية تعي حقيقة الإنجاز اللساني العربي الحديث، وتساهم في ترسيخ خطاب تقويمي للحيز التداولي للعمل اللساني العربي، و قياس النظريات اللسانية لمعرفة آلاتها و مساطرها و أوزانها، سنقف على جوانب من النقد الابستيمولوجي عند الدكتور مصطفى غلفان في كتاب "اللسانيات العربية الحديثة : دراسة نقدية في المصادر و الأسس النظرية و المنهجية ". على أن نعود في مقالات أخرى بحول الله للكشف عن مظاهر الممارسة الإبستيمولوجية في النماذج التي أطرناها في خانة الكتابات النقدية المؤسسة.
ثالثا: اللسانيات العربية الحديثة: المصادر والأسس النظرية والمنهجية:
يروم الدكتور مصطفى غلفان من محاولته النقدية للكتابة اللسانية العربية الإجابة عن أسئلة من قبيل :
- ماذا قدمت اللسانيات للعربية ؟
- هل هناك لسانيات عربية ؟
- ما المقصود بها ؟
- ما هي سماتها المنهجية و النظرية ؟
- ما هي النتائج النظرية و المنهجية المترتبة على تطبيق النماذج اللسانية على اللغة العربية ؟[35].
إن الإجابة عن هذه الأسئلة و غيرها يقتضي » القيام بمسح دقيق لأهم و أبرز الكتابات التي اعتبرت من قبيل " اللسانيات العربية " أو " الألسنية العربية " أو " اللغويات العربية " و تحليلها تحليلا منهجيا يمكن من كشف و تبيان خصائصها النظرية و المنهجية في ضوء اللسانيات العامة «[36].
فعلى الرغم من تجذر البحث اللساني في الثقافة العربية، فإن التمحيص و الفحص المنهجي لا يفرز إلا حالات نادرة تستحق فعلا أن تندرج في إطار البحث اللساني بالمعنى العلمي الدقيق، و بغض النظر عن الاختلافات التي يمكن أن تثار حول هذه المسألة، فإن الخروج برؤية علمية في الموضوع تحتاج إلى أن تقوم التجربة اللسانية في الثقافة العربية تقويما صحيحا ينطلق من الإجابة عن التساؤلات الآتية :
-كيف وعى اللغويون العرب المحدثون مبادئ اللسانيات العامة و فرضياتها و نماذجها النظرية ؟
-كيف تم توظيف كل هذه الأمور و تطبيقها في دراسة مختلف جوانب اللغة العربية ؟ كيف تم نقل ذلك للقارئ العربي متخصصا كان أم قارئا عاديا ؟ [37]
إن الإجابة عن هذه التساؤلات تشكل اللامفكر فيه في البحث اللساني العربي، و هذا ما حدا بالمؤلف إلى وضع مؤلفه يقول: » تخلو المكتبة العربية – فيما نعلم – من الدراسة المفصلة و الشاملة التي تعرض بالتحليل النقدي لتجربة اللسانيات في الثقافة اللغوية العربية الحديثة . فلم تعقد بعد أي صلات بين الخطاب اللساني العربي و بين الخطاب اللساني العام ، و هي الصلات التي بإمكانها أن تبين لنا المصادر الأساس التي نهلت منها كتاباتنا اللسانية الحديثة ، و تحدد الأسس النظرية و المنهجية المعتمدة ، و تكشف عما استفادته دراسة اللغة العربية من هذه المعرفة الجديدة . و الدراسة التي نقدم، في هذا الكتاب، ليست سوى مساهمة أولية لرصد بعض الجوانب التاريخية و النظرية المتعلقة بالتجربة اللسانية في العلم العربي سواء من حيث العوامل الفاعلة فيها سلبا و إيجابا أم من حيث إمكاناتها و حدودها«[38].
1. المنطلقات النظرية و المنهجية :
ما يميز محاولة مصطفى غلفان هو تجاوزه لكل رؤية مذهبية سواء في الكتابة اللسانية العربية أو اللسانيات الحديثة، فلم يعتمد أي نظرية لسانية للحكم على ما يكتب في اللغة العربية، و علاوة على ذلك اعتمد خطة منهجية صارمة تتجلى في تخصيصه مدخلا نظريا و منهجيا تناول فيه مجموعة من القضايا التي تمهد لتقديم تحليل نقدي للسانيات العربية، و هو بيت القصيد في عمله. فما هي التصورات التي اعتمدها منطلقا في نقده؟
يعتبر المحلل الناقد، في نظرالباحث، » بمثابة محاور و مناظر لغيره، في الوقت ذاته. إنه يتوجه للآخر مطلعا على ما يعتقد و يعرف مطالبا إياه بالمشاركة في الاعتقاد، قصد تحقيق أغراض علمية محددة، مما يجعل عمله قائما على التعاون مع الآخر ، في طلب الحقائق و الحلول في تحصيل المعارف و اتخاذ القرارات العامة و التوجه بها إلى العمل .إن العمل النقدي شبيه، من حيث بنيته العامة، بالحوار العادي سوى أن الأول أكثر ضبطا لشروطه و أصوله، و إن كان الثاني لا يخلو منها. كلاهما يتبع طرقا استدلالية محددة قد تكون أكثر وضوحا في الحوار العلمي. إن النقد اللساني، بهذا المعنى التفاعلي، يجب أن يصير حوارا علميا « [39]، و هذا ما تفتقر إليه أغلب المحاولات النقدية التي عرضنا لها آنفا خصوصا ما تعلق من ذلك بالنقد العام و النقد الخاص .
إن الالتزام بالمبادئ التي سطرها الباحث تجنبنا إصدار أحكام قيمة سلبا وإيجابا، دون تفسير يستند لمبادئ منهجية محددة، وهو المنطلق الذي يجب أن يبدأ منه كل من يروم إعمال النظر و النقد.
إن التحليل النقدي السليم لا يمكن أن يكون إلا بوضع أسس واضحة المعالم نظريا و منهجيا، تكون بمثابة قاعدة يتم الاستناد إليها باستمرار. على هذا الأساس يميز الباحث بين ونوعين من القواعد: قواعد معيارية، و قواعد مؤسسة، و هو تقسيم يستعيره من فيلسوف اللغة سورل.
أ- القواعد المعيارية :
ترتبط القواعد المعيارية »أساسا بذات المحلل الناقد ووعيه، و هي ذات طبيعية أخلاقية بالدرجة الأولى، ومنها : وجوب الاتصاف بالموضوعية و احترام رأي الآخر و عدم الإساءة إليه، و التخلي عن المجازفة في التعميمات و القطع في الإثبات أو النفي . و قد يكون لهذه القواعد أهمية تفوق درجة كفاءة المحلل الناقد العلمية. فلا علم بدون أخلاق. و يمكن ربط هذه القواعد المعيارية بما عرف في الثقافة العربية القديمة بشروط الجدل و المناظرة «[40].
ب- القواعد المؤسسة :
و هي القواعد التي » تحدد الكيفية التي ينبغي أن تناول بها التحليل النقدي اللساني موضوعاته، و ذلك بتزويد المتتبع برؤية منهجية محددة تستند لجملة من المبادئ القابلة للضبط و المراقبة. و من شأن هذه القواعد أن تجعل المتابعة النقدية مقيدة شكلا و مضمونا، مما يعطي للاستنتاجات المحصل عليها قدرا كبيرا من الموضوعية و الوضوح حتى لا يتحول النقد إلى أحكام ذاتية مرتبطة باعتبارات ظرفية وشخصية « [41].
إن هذه القواعد التي يستند إليها الباحث في تقسيمه السابق قواعد كثيرة، و لعل أهمها بالنظر إلى واقع البحث اللساني العربي:
- الإيمان بتعدد المذاهب و التيارات اللسانية،
- التعرف الكامل و الدقيق على المصادر الأساس للكتابة المستهدفة نقدا،
- تقويم الكتابة اللسانية تقوما داخليا، انطلاقا من الإطار النظري الذي تندرج فيه،
- العناية بالقضايا ذات المردودية النظرية و المنهجية و التطبيقية[42].
غير أن هذا الحصر ل ينفي وجود مبادئ أخرى قد تكون أساسا لنقد موضوعي مفيد.
فكيف استثمر الباحث هذه المبادئ النظرية و المنهجية في نقده للكتابة اللسانية العربية ؟ و ما هي أهم تجليات ذلك ؟
2- من تجليات التحليل النقدي في الكتاب :
2-1 السمات المنهجية للكتابة اللسانية المقدمة ية
على الرغم من المساهمة الإيجابية للسانيات المقدمة ية في تقدم البحث اللساني العربي في بعض مناحيه، فإنها لم تسلم، في نظر الباحث، من بعض الهفوات لخصها فيما يلي:
2-1-1 الارتباك في تحديد مجال البحث اللساني:
يرجع هذا الارتباك و الغموض إلى طبيعة » المصادر التي تعتمدها بعض الكتابات التمهيدية، و هي مصادر عامة بعيدة نسبيا عن اللسانيات بمعناها العلمي الدقيق« [43].يفسر هذا الارتباك بعدم تحديد موضوع علم اللغة تحديدا دقيقا، فالمتتبع لموضوعات الكتابة اللسانية المقدمة ية، و تحليلها يلاحظ أنها حصرت مجالات علم اللغة في نطاقه الواسع ؛ أي دراسة اللغة في إطارها العام تاريخيا و حضاريا و اجتماعيا و نفسيا و لم تهتم بالمبادئ اللسانية العامة إلا في حالات نادرة .
2-1-2 غياب تقنيات التحليل اللساني:
يشكل الجانب التقني أحد الجوانب الأساس التي تتوسل بها اللسانيات في فرض منهجية علمية للتحليل، غير أن الأمر في الكتابة اللسانية التمهيدية ليس على هذه الشاكلة » إذ من النادر وجود كتابة تعرض التقنية المتبعة في التحليل اللساني، أي كل ما يتوسل بواسطته المحلل اللساني في وصف الظواهر اللغوية، من أدوات تقنية و طرق إجرائية في التحليل المباشر للغة. رغم أن جل الكتابات اللسانية المقدمة ية العربية هي ذات منحى وصفي بالأساس، فإنها لم تعمل على تقديم المنهجية المتبعة في هذا الاتجاه من الدرس اللساني «[44].
صحيح أن الكتابة اللسانية التمهيدية تتحدث عن موضوعات علم اللغة بإسهاب، لكنها لا» تعرض للكيفية التي يتم بها تناول هذه الموضوعات لسانيا، سواء في إطار المنهج الوصفي أم التاريخي أم التقابلي« [45]، و هذا ما يضع القارئ أمام تساؤلات عديدة، تربكه، فـ » تعامل الكتابة اللسانية التمهيدية مع تقنيات التحليل اللساني ظل عموما منحصرا في تقديم معلومات تعود لبداية هذا القرن، في صيغ يغلب عليها الطابع الأدبي. أما النفاذ إلى عمق المناهج اللسانية، باعتبارها أجهزة مفاهيمية لها أدواتها الواصفة التي تضبط عملية التحليل الوصفي للغة معينة، و ذلك ما لم تتمكن الكتابة اللسانية المقدمة ية من القيام به بشكل كاف« [46]،و إن كانت بعض الكتابات الصادرة منذ الثمانينيات قد تجاوزت نسبيا هذا النقص[47].
2-1-3 عدم مواكبة النظريات اللسانية :
تتميز النظريات اللسانية، عموما، بالتجدد، و لا سيما النماذج المتأخرة منها، كتلك التي عرفها النحو التوليدي و النحو الوظيفي، غير أن الواقف على الكتابة اللسانية العربية التمهيدية يجد » أنها لا تواكب في مجملها التطورات التي حصلت في البحث اللساني الحديث، و ما عرفته النظريات من تغييرات و تصورات جديدة، و تكاد المرحلة التي تتناولها الكتابة التمهيدية هي المرحلة البنيوية، في إطارها البنيوي في إنجلترا «[48]. و تظهر عدم المواكبة، خصوصا، في كتابات لسانية تمهيدية ينحصر النظر فيها في مجالات لسانية عديدة [صوت ، تركيب ، دلالة] في فترة زمنية محددة من تاريخ اللسانيات و لا تتجاوزها [49] ، دون أن تعير اهتماما للتطورات التي عرفتها اللسانيات في إطار النحو التوليدي مثلا . لقد عرض المؤلف لجوانب عديدة تمثل لعدم قدرة العديد من اللسانيين مواكبة مستجدات البحث اللساني و بذلك لم تقدم الكتابة المقدمة ية للقارئ العربي المبتدئ المعلومات الكفيلة بمواكبة مستجدات النظريات اللسانية و تطوراتها.
2-1-4 اللغة العربية في الكتابة المقدمة ية:
اللغة العربية أساس البحث في الكتابة اللسانية التمهيدية العربية، غير أن هذه الكتابة » تخلو من أي ربط يبين ما تقدمه من معلومات لغوية و الواقع اللغوي العربي. وتكثر الكتابات التمهيدية العربية من المثال التطبيقي المأخوذ مباشرة من اللغات الأجنبية خاصة اللغة الإنجليزية. و يعطي عدم انشغال الكتابة المقدمة ية بأمثلة من اللغة العربية الانطباع لدى القارئ عامة، و المبتدئ على وجه الخصوص، أن هذه المبادئ المعروضة عليه لا تمس اللغة العربية في شيء و لا تنطبق عليها، و بالتالي لا تهمها «[50].
و إذا كانت بعض الكتابات قد نجحت في أن تستقل أمثلتها من العربية، فإن ما يلاحظ عليها أن أمثلتها بسيطة، و تطرح أكثر من إشكال نظري ، كما هو الشأن ، مثلا ، بالنسبة إلى تحديد بنية الجملة العربية ، إذ لا نجد تصورا واحدا لتمثيل بنية الجملة البسيطة، سواء تعلق الأمر بالمنظور البنيوي أو المنظور التوليدي[51]. و ترجع النقائص السابقة إلى جملة من العوامل يمكن تلخيصها في:
- الإفراط في التبسيط
- الجنوح للتعميم الشديد
- إهمال المصادر العلمية [52]
كل ذلك يتعارض مع كل كتابة لسانية مقدمة ية جادة و منفتحة، يمكن أن تساهم في خلق وعي لساني جديد في الثقافة العربية.
2-2 لسانيات التراث:
عرض الباحث في مستهل حديثه عن لسانيات التراث للإشكالية التي يندرج فيها هذا الصنف من الكتابة اللسانية العربية الحديثة ، أي ما اصطلح على تسميته في الفكر العربي الحديث " إشكالية الأصالة و المعاصرة "، ثم عرض بعد ذلك لأهم المنطلقات و الاتجاهات في هذا التوجه ليصل إلى تقويم الوضع الإبستيمولوجي للقراءة .
إن أول ملاحظة يمكن تسجيلها بخصوص هذا الوضع، في نظر الباحث » أن المنهجية المعروفة بالقراءة أو إعادة القراءة، لا تجيب بالتحديد عن جملة من الأسئلة منها: ماذا نقرأ ؟ و كيف نقرأ؟ في ضوء ماذا نقرأ؟ إنها أسئلة تجعل الكتابة اللسانية القرائية لا تستند إلى أساس نظري أو منهجي محدد لعدم استناد القراءة نفسها إلى وضع إبستيمولوجي محدد في غياب منهجية واضحة المعالم « [53] .
2-2-1 القراءة بين التأويل الذاتي و الطرح المنهجي :
إن السمة الغالبة على لسانيات التراث هي اعتمادها تأويل النصوص و استنطاقها، منطلقا مع عزلها عن سياقاتها، فهي قراءة »لا تنظر إلى المقروء كما هو في شموليته و كليته و لحظاته التاريخية. إنها لا تهتم بالتراث إلا في إطار ما تستهدفه من وراء عملها ممارسة نوع من الانتخاب و الانتقاء و نزع النصوص من سياقها التاريخي ، ثم إعادة زرعها في سياق جديد و إسقاطها على الماضي ( إلى الوراء ) و على المستقبل ( إلى الأمام ) ، و عن التأويلات الحرفية أو الباطنية و المبالغات المعنوية « [54] .
فهل يمكن أن توصف قراءة بالموضوعية في غياب منهجية محددة ؟ إن هذا غير ممكن إطلاقا في مجال المعرفة العلمية، لأن المعرفة العلمية - كما ينص على ذلك كارل بوبر- ينبغي أن تبرر باستقلال عن نزوات أي شخص، و أن يكون التبرير موضوعيا عندما يكون قابلا للمراقبة و يفهمه الكل[55].
و إذا كان التأويل ضروريا فإن السؤال الذي يطرح كيف يمكن تحاشي المنزلقات و الهفوات التي تنتج عنه ؟
يقدم الباحث جوابا عن هذا السؤال مفاده » أن التأويل الذي تقوم عليه القراءة ليس جملة من الإواليات المضبوطة الكفيلة بتحديد مسافات التأويل، إن القراءة في جوهرها مجموعة من " التقديرات " المقدمة في شكل حدوس و تخمينات متباينة يتحول فيها التراث على صورة مستكنهة مقدرة تومئ (...) إن تأويل النص القديم ،إما تقدير، و إما حدس ، و إما ظن ، و إما تفكير ضمني (...) كيف يمكن أن نقيم مقارنات و نستخلص منها بعض النتائج و الأحكام ذات الأهمية البالغة، إذا كان الأمر لا يعدو أن يكون أن هذا اللغوي القديم يفكر ضمنيا بهذه الكيفية، أو أن هذا النص القديم يشير ضمنيا إلى كذا و كذا؟ «[56].
2-2-2 القراءة و نظرية العلم :
تكشف المتابعة الدقيقة للقراءة التي يقدمها لسانيو التراث عن » فهم عام لمضامين النظرية اللسانية، وإدراك غير واضح لها بسبب تداولهم إياها تداولا حدسيا و تلقائيا، متناسين، في حالات عديدة، مصادرها الفكرية و الأسس النظرية و المنهجية التي تقوم عليها. إن ما تعتبره القراءة اللسانية مفاهيم بسيطة مثل مفهوم العامل، و مفهوم الحالة، و مفهوم البنية العميقة و البنية السطحية، و مفهوم التحويل، و غيرها من مفاهيم التوليدية هي في العمق غير ذلك .إن المفاهيم اللسانية الحديثة ترتبط في جوهرها بمبادئ منهجية على جانب كبير من التعقيد النظري باعتبارها جزءا من شبكة من الإشكالات المتداخلة « [57]، و هذا ما كشفنا عنه من خلال حديثنا عن لسانيات التراث و أهم تجليات التلقي التي ميزتها.
إن أي دراسة، في أي مجال من مجالات البحث العلمي، تقوم بمدى مساهمتها في تطوير مجالات البحث وتعميقها، أما استهداف التقارب لذاته، فلا يفيد النظر العلمي في شيء، و من ثم لا أهمية له، يقول غلفان في هذا الصدد : ليس المهم في شيء أن نصل إلى مثل هذا التقارب؛ إن عمق المشكل يكمن في مساءلة الأسس المنهجية والأبعاد النظرية للنشاط اللغوي العربي و نظيره الغربي الحديث . قد يحصل الالتقاء والتشابه بين الفكر اللغوي القديم و الفكر اللساني الحديث، في كثير من المجالات المعرفية، كما يحدث صدفة أو عفويا بين جميع الثقافات الإنسانية إن ما يتعين القيام به و توضيحه هو كيف وضع هذا المفهوم أو ذاك في إطار نظري معين ؟ كيف يتم توظيفه؟ ما علاقته بمفاهيم أخرى؟ من المؤكد أن انتقاء المفاهيم وعزلها عن الإطارين النظري و المنهجي اللذين يتحكمان في هذه المفاهيم لا يقود إلى نتيجة منهجية مفيدة « [58] .
إن القراءة في لسانيات التراث تهدف إلى البرهنة على صحة البحوث اللغوية العربية من خلال مقارنتها بالبحوث اللسانية، و هي مقارنة تقوم على التصويب الكلي للبحوث اللغوية، و البحوث اللسانية في الوقت نفسه و هذا يتنافي، في منظور الباحث، مع مفهوم النظرية و شروطها إذ يجب أن تكون النظرية » قابلة للإبطال أو، على الأقل، قابلة للتجاوز ، في حين يكون ما تنادي به لسانيات التراث المتمثل في قابلية الفكر اللغوي العربي للقولبة و الاندماج في مجموع النظريات اللسانية الحديثة أمرا مستحيلا فلا يمكن– على الأقل من الناحية النظرية - » البرهنة على صحة النظريات ، كل ما يمكن القيام به هو البرهنة على خطئها« و كل نظرية لا تقبل الإبطال و الدحض هي ميتافيزيقا. »إن الفرق بين العلم و الميتافيزيقا هو الإبطال Falcification « [59] .
إن ما تقدمه لسانيات التراث يجعل أصالة التراث العربي مرتبطة أساسا بهذا الشكل من المقارنة، و هذا يعني أنه لا وجود للتراث اللغوي العربي و لا لأصالته إلا بالارتباط المباشر بالنظريات اللسانية الحديثة. و الواقع أن » أصالة الفكر اللغوي العربي ليست مرتبطة بمدى ملاءمتها بما تقدمه النظريات اللسانية الحديثة. إن اللسانيات ليست مقياسا لتقويم أصالة التفكير اللغوي العربي القديم، إن أصالة هذا الفكر مرتبطة بالإطار الحضاري العربي الإسلامي و بالشروط التاريخية التي وجهت التفكير اللغوي العربي في المسار الذي سار فيه بكل الملابسات و الأبعاد المعروفة« [60] ، و هذا ما لم يأبه به لسانيو التراث.
2-2- 3 القراءة و العمل اللساني :
اتخذت الدراسات اللغوية منحى جديدا بمجيء سوسير الذي استطاع أن يضبط بدقة موضوع اللسانيات و يخلصه من القضايا الخارجة عن اللغة بالدعوة إلى تركيز البحث على دراسة اللغة في ذاتها، و من أجل ذاتها ، غير أن النظر إلى » الدراسات اللغوية التي تندرج في إطار لسانيات التراث لا تهتم بالموضوع (...) ،إنها لا تتناول اللغة العربية باعتبارها بنية مكونة من مستويات مختلفة . إن غاية الكتابة اللسانية القرائية هي التوفيق بين التصورات اللغوية القديمة و مضامين الدرس اللساني الحديث .إنها تتعإلىعن موضوعها الأصلي لينصب اهتمامها حول التراث اللغوي، فهي لا تصف و لا تفسر الظواهر اللغوية العربية. إن قراءة الفكر اللغوي العربي القديم أو إعادة قراءته في ضوء اللسانيات يوحي بأن موضوع اللسانيات الأساس هو تأويل التراث و ليس دراسة اللغة في حد ذاتها و لذاتها «[61].
إن النظر في مبادئ التراث و تقييمها أمر مشروع، خصوصا إذا كان الهدف هو تطوير الفكر اللغوي العربي القديم، و كان هذا النظر يعتمد قواعد البحث اللساني السليم بعيدا عن التأويل و الدوغمائية، لكن النظر إلى القراءة التي تقدمها لسانيات التراث يكشف أنها » أقرب ما تكون إلى العمل الفيلولوجي من حيث إنها تضع الشروح المساعدة على فهم النصوص المساعدة . إن القارئ في مجال التراث العربي ليس إلا شارحا و فيلولوجيا ، إنه يحاول أن يضع الشروح المساعدة على فهم النصوص القديمة فيجد نفسه من اجل تقريب فكر قديم من معاصريه (...) يلجا إلى استعمال ألفاظ و تعابير حديثة. و هكذا يأتي الشرح يختلط فيه القديم و الحديث عبر ألفاظ لا يربط بينها سوى إرادة الشارح. لذلك لن تفيدنا النتائج المتوصل إليها عن طريق المقارنة أو التشابه اللذين تقف عندهما لسانيات التراث نظرا لتباعد أهدافها و أهداف العمل اللساني الصرف. عن دراسة اللغة سانكرونيا يتعلق بدراسة قواعد اللغة العربية العام و طرق اشتغالها و الجهاز الواصف لهذه اللغة «.
2-2-4 حدود لسانيات التراث :
إن الهدف، هنا ، هو الكشف عن بعض القضايا النظرية و المنهجية العامة التي تثيرها لسانيات التراث، و الكشف عن النتائج المترتبة على ذلك . فالقراءة في هذا النمط من اللسانيات تطرح إشكالات كثيرة منها جملة من القضايا الفكرية تبقى أهمها إشكالية" هوية" التراث اللغوي و علاقته بالنظريات اللسانية و تنوعها ، فـ» إذا تناولنا مثلا المستوى النحوي لهذا التراث اللغوي، فإننا نعرف أنه يشكل منظومة مرجعية خاصة بالثقافة العربية الإسلامية القديمة . إنه نسق فكري وضع في فترة تاريخية محددة نتيجة عوامل معينة، و قام على أسس فكرية معينة باعتباره جزءا من بنية ثقافية عامة، هي الثقافة العربية بمختلف مكوناتها الحضارية ( فكرية و اجتماعية و دينية و سياسية ) غير أن تعدد القراءات يفقد التراث اللغوي العربي "خصوصيته" الحضارية، و ذلك عندما نجعله قابلا لأن يصاغ حاضرا و مستقبلا في أي نظرية لسانية ممكنة اليوم و غدا . ما تنتهي إليه القراءة أنه كلما ظهرت نظرية لسانية جديدة فإن النحو العربي يكون قادرا على احتوائها «[62].
فهل من المعقول أن يكون النحو العربي بنيويا و توليديا ووظيفيا في أسسه النظرية و المنهجية ؟ إن هذا غير ممكن إطلاقا و كل توجه من هذا القبيل يوقعنا في » مفارقة منهجية و مغالطة ابستيمولوجية. إن ما يكون بنيويا تصنيفيا لا يمكنه أن يكون، في الوقت ذاته، توليديا تحويليا نظرا لاختلاف الأسس النظرية و المنهجية بين التصورين « [63] .
2-2-5 حول مقولة تجانس التراث :
إذا كنا نتحدث عن النحو العربي بهذا الإطلاق، فإن ذلك لا يسوغ اعتبار هذا النحو مدونة متجانسة، لأننا عندما نعتبره كذلك نسمح لأنفسنا » باستنتاج أمور لا تتفق و حقيقة الظاهرة المدروسة .إن التجانس التي تضفيه القراءة على التراث يلغي التناقض الذي يزخر به هذا التراث عبر مساره الطويل « [64]
إلى جانب التجانس تعتمد المقارنة بين اللغويات و اللسانيات على مظاهر التشابه، لكن » ما هو هذا التشابه الذي يمكن أن يتمظهر في نمطين من التفكير لكل منهما شروطه الموضوعية و الذاتية التي أفرزته و خصائصه التاريخية التي وجهته« [65].
إن هذا التشابه و التجانس يلغيان الخصوصيات التي تميز كل ثقافة سواء أتعلق الأمر الثقافة العربية الإسلامية أم بالثقافة اللسانية ... و هذا ما لم يعه لسانيو التراث .
2-2-6- الأبعاد الحضارية للقراءة :
إن اللجوء إلى قراءة الفكر اللغوي العربي القديم ، يفرض علينا أن نميز بين موقين: » - موقف حضاري : تكون | |
|
AsiArtiste مشرفة عامة
عدد المشاركات : 509 أنــــــــــــا جنسي هو : أنا جنسيتي هي : احترام القوانين : الوسام الممنوح للعضو : : 51342146 5103
| |
admin
Time Online : 1d 14h 59m 25s عدد المشاركات : 94883 أنــــــــــــا جنسي هو : أنا جنسيتي هي : احترام القوانين : الوسام الممنوح للعضو : : 138749812 29015
| موضوع: رد: إبيستيمولوجيا اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة 06.12.10 11:06 | |
| | |
|