مخاطبة العقل واستثارة التفكير أمر نهج عليه القرآن كثيراً في تثبيت العقائد وتقريرها، فهو ينتزع الدليل العقلي الواضح ويقدمه دليلاً يخاطب به كل عاقل، ولما كان التوحيد هو أول واجب على العباد، وآخر واجب، وهو سبب دخول الجنة والنجاة من النار، كانت أدلة التوحيد من الجلاء بمكان بحيث يتسع لكل عاقل فهمها وإدراكها .
ولهذا جاءت أدلة التوحيد العقلية في القرآن الكريم من الجلاء بمكان بحيث لا يستطيع عاقل إنكارها، وهو ما سيتضح جليا عند استعراض هذه الأدلة، وهو ما خصصنا له هذا المقال، فمن تلك الأدلة:
الدليل الأول: قوله تعالى: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون }(الطور:35)، وهذا التقسيم المنطقي يخاطب العقل البشري بالقول إن ما ترون من خلق السموات والأرض والنجوم والمجرات وهذا الخلق العظيم المتسع إما أن يكون خُلِقَ من عدم أي من لاشيء، أو أن هذا الكون خَلَقَ نفسه بنفسه، ولا شك في بطلان هذين الاحتمالين، فالعدم لا يخلق، والمخلوق لا يخلق نفسه، فلم يبق إلا الاحتمال الثالث، والذي ترك الحق سبحانه ذكره لوضوحه وجلائه، ولكي يصل إليه الإنسان بقليل من التأمل والتفكر، وهو أن لهذا الكون خالقا ورباً وإلهاً، وقد يقال: إن هذا الاحتمال وإن تعين إلا أنه لا يتعين في حق الله تعالى، فقد يكون الخالق غيره، مما لم نره ولم يرسل لنا رسولاً، فيقال: لو كان هذا الفرض صحيحاً لكان ما تدعونه إلهاً ناقصاً، فهو يرى خلقه يعبدون سواه، ويرى غيره يدعي ما هو مختص به ثم لا يحرك ساكناً، ولا يفعل شيئاً تجاه هذا الإله، وهل هذا إلا نوع من العجز أو الإهمال وهي صفات لا تليق بالإله الحق، ثم يقال: من أين عرفتم عن هذا الإله إذا لم يرسل رسله، ولم ينزل كتبه، ولم يعرِّف بنفسه، وهل هذا سوى محض توهم، وليس من دليل علمي يسنده، فعلام نترك ما قام الدليل على وجوده إلى ما نتوهم وجوده ؟
الدليل الثاني: قوله تعالى: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعإلى عما يشركون }(المؤمنون:91) وهذه الآية اشتملت على ما يسميه العلماء دليل التمانع: ومعناه أنا لو فرضنا مع الله آلهة أخرى فهي: إما أن تسلّم له بالألوهية أو تنازعه إياها، فالفرض الأول يلغي ألوهيتها إذ الخاضع مألوه وليس إلهاً، وإما أن تنازعه ملكه وسلطانه فيظهر أثر هذا التنازع في الكون في مغالبة الآلهة، وذهاب كل إله بما خلق، بحيث ينفرد كل واحد من الآلهة بخلقه، ويستبدّ به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزاً عن ملك الآخرين ، ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا حيث ممالكهم متمايزة، وهم متغالبون، وحين لا ترون أثراً لتمايز الممالك ولتغالب الآلهة، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء .
ولو قال قائل: إن نوعاً من التوافق تم بين الآلهة، فانفرد كل إله بما خلق دون شقاق أو تنازع، لكان في ذلك أيضا أعظم الأدلة على بطلان ألوهيتهم، ذلك أن كل إله سوف تكون ألوهيته ناقصة في حق الطائفة التي لم يخلقها، وهذا يفضي إلى نقص في كل من الآلهة، وهو يستلزم المحال لأن الإلهية تقتضي الكمال لا النقص .
وثمة أمر آخر وهو أن تصير مخلوقات بعض الآلهة أوفر أو أقوى من مخلوقات إله آخر بعوارض تقتضي ذلك كما هو المشاهد في اختلاف أحوال مخلوقات الله تعإلى الواحد ، فلا جرم أن ذلك يفضي إلى اعتزاز الإله الذي تفوقت مخلوقاته على الإله الذي تنحط مخلوقاته، وهذا يقتضي أن يصير بعض تلك الآلهة أقوى من بعض، وهو مناف للمساواة في الإلهية .
وأمر آخر وهو ضرورة أن يتمايز خلق كل إله عن غيرهم تمايزاً إما في المكان، أو في الزمان، أو في المعرفة، والخلق لا يشهدون هذا التمايز فدل على عدم وجوده .
الدليل الثالث: قوله تعالى: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا }(الإسراء:42) وفي تفسير هذه الآية وجهان:
الوجه الأول: أن من شأن أهل السلطان في العرف والعادة أن يتطلبوا توسعة سلطانهم، ويسعى بعضهم إلى بعض بالغزو، ويتألّبُوا على السلطان الأعظم ليسلبوه ملكه أو بَعضه، وهذا التفسير تأكيد للتفسير السابق .
الوجه الثاني: أن الكفار كانوا يقولون: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }(الزمر: 3 ) فقال الله: لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها أيضاً قربة إلى الله تعإلى وسبيلاً إليه، ولطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الشريفة والأحوال الرفيعة، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله . ثم إن طلبها القرب من الله وابتغاء السبيل إليه يخرجها عن كونها آلهة، لأن من خصائص صفات الإله استغناؤه عما سواه، وهذه الآلهة المزعومة محتاجة غير مستغنية فكيف يقال بألوهيتيها ؟!!
الدليل الرابع: قوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }( الأنبياء:22)، ومعنى الآية أننا لو فرضنا وجود آلهة غير الله لأدى ذلك إلى فساد العالم، حيث يتنازع الملك آلهة مختلفون متضادون فيؤدي ذلك إلى فساد العالم وخرابه .
وهذه الآية كسابقتها في إثبات دليل التمانع، كما أنها تؤكد على انتظام أمر الكون من عرشه إلى أصغر ذرة فيه، والتركيب لكل جزء من أجزاء هذا الكون، وارتباط أنواع الكائنات كل واحد بالآخر يكشف عن أن الجزء والكل مخلوقان لخالق واحد عليم قدير حكيم .
فتركيب الذرة الواحدة من نواتها وما يدور حولها إلى تركيب الشمس والكواكب والمجرات، يكشف عن أن خالق الذرة والشمس والمجرة واحد { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم }(الزخرف:84)، { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون }(البقرة:21-22).
فهذه بعض أدلة التوحيد العقلية التي اشتمل عليها القرآن الكريم، وهي أدلة واضحة جلية، يفهمها كل عاقل، ويخضع لها كل منصف، فالله هو من أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لبيان التوحيد وبيان وجوب عبادته، وأما هذه الأصنام والأوثان والكواكب التي تعبد من دونه والتي تحمل صفات حدوثها، فلم ترسل رسلاً، ولم تنزل كتباً، فمن أين يستدل على ألوهيتها ؟!! والكون كله يشهد بتوحيده سبحانه، ولو كان هناك إله أو آلهة غير الله لرأيت آثارها وأفعالها ولحدث التنازع بينها، وأدى ذلك إلى اختلال في الكون كله، فهذا يحيي وذاك يميت، وهذا ينزل المطر، وذاك يمنعه، وهذا يعز وذاك يذل، فأي إرادة سوف تسير الكون مع وجود آلهة متعددة ؟!!.