(وما ينطق عن الهوى)
رأس مال الإنسان الذي يمشي به مع الصالحين هو الذوق فمن معه الذوق السليم، والقلب المستقيم؛ يُبْشَّر ويبشِّر نفسه بأنه سيكون ممن يُخصوا بجزء من ميراث:
( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) (6سورة النمل)
والذوق هبة من الله، يقولون فيها:{ قد يعطى الذوق رجل أمي، وقد يحرم من الذوق عالم أزهري }
إن هذا الذوق تعليم إلهيّ ربانيّ، يأتي بالإخلاص، ومفتاحه الإخلاص من منكم يا إخواني يستطيع أن يعرفنا بعض أسماء الكتب في علم الذوق ، الذوق الإرشادي الخاص بنا، وليس علم التذوق أي تذوق الطعام وكتبه كثيرة، لكن الذي نعنيه هو الذوق في الفهوم، والذوق في العلوم، والذوق في الأسرار، والأنوار. من الذي يستطيع أن يُعلَّمه؟لا يوجد
ولكنك تستطيع أن تتلقاه متى؟إذا ملئ القلب بالإخلاص لله، وصارت النفس على قدم الصدق نحو الله.
فأول علم يتلقاه الإنسان بعد ذلك هو علم الذوق، وصاحب هذا العلم يلهمه الله بالأدب الذي يصحب به إخوانه، ويلهمه الله بالأدب الذي يصحب به العارفين؛ لكي ينال فضل ربِّ العالمين.
فدخول الجنة، بالأعمال الصالحة .أما وجه الله فلا ينال إلا بالأدب مع الله.
ورؤية حبيب الله ومصطفا لا تنال إلا بكمال الأدب مع حضرته، على وفق كتاب الله سبحانه وتعالى.
فلكي يمشي الإنسان في طريق الله، فإن الله يؤهله، ويعطيه الذوق السليم، فيعرف من غير مُعرِّف، ويتأهل بدون مؤهل، فيجد نفسه ولو بعد سنين، وهو يطالع في كتب العارفين، أن الآداب التي ألهمه بها الله هي نفسها الموجودة في كتب العارفين، مع أنهم أيضاً لم يتلقوها من كتاب، ولكنهم أخذوها من علي الجناب
الله يرفع لا علمي ولا عملي
محو الكيان بعاليه وسافله
علم من الله بالإلهام في الأصل
لأن من الجائز أن يسيء الإنسان الأدب؛ فيحدث له العطب، فلو صحب العارفين مع ذلك لمدة خمسين سنة، فلن يزيد إلا حرمانا، لأنه لم يحفظ الآداب، ولذلك كان الإمام أبو العزائم يقول:
{ حافظ على الأدب ولو رقيت إلى أعلى الرتب }
فسيدنا أبو بكر، وسيدنا عمر، وسيدنا علي، وسيدنا عثمان رضي الله عنهم أجمعين، من أين تعلموا الأدب؟ من الذوق،
فتح الله لهم باب الذوق السـليم:فعلمهم الأدب الكامل مع النبي الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن ينتظر أن تعلمه الناس علم الآداب، فيلزمه أن يظل في الإسـطبل مع الدواب.والإمام أبو العزائم يقول:{ المريد الصادق، يفهم إشارة المرشد قبل كلامه }
فلا يحتاج إلى كلام باللسان
ولكنه يعرف ما يريده الشيخ من القلب والجنـان، وذلك لأن الموجة والإرسال واحد، فعندما تكون الموجه واحدة، وهذا الجهاز سليم، والآخر سليم؛ فمن يضبط المؤشر؛ سيأتي بنفس الموجه.وهم جميعاً مؤشرهم على موجة النبي الكريم.
ولذلك أحياناً تجدهم؛ هذا يتكلم والآخر يتكلم، وهذا في مكان والثاني في مكان آخر، ومع ذلك تجد أن ما هنا هناك، لأن الإرسال واحد، لأن الإنسان عبارة عن جهاز استقبال، باطنه يستقبل الأنوار من الله عزَّ وجلَّ، والإلهامات من الحبيب الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
فالذوق السليم يا إخواني هو عكاز المريد.فإذا فقد ذوقه؛ مات شوقه، وإذا مات شوقه؛ طالت حسراته، ولم يبلغ أمنياته، لأنه بَعُد عن طريق الصالحين رضي الله عنهم أجمعين في كل وقت وحين.
وتفصيل ذلك، ولكي تصل إلى ذلك:
علينا أن نرى أحوال الصالحين مع بعضهم، وإذا أردت أن أمشي في الطريق، عليَّ أن أرى أحوال السابقين، إما سمـاعاً، أو نظراً، وأمشي على هديها؛ إلى أن يفتح الله لي القلب، ولا أمشي على حسب هواي.
وما يبعد المريدين عن الطريق، أن كل واحد منهم يريد أن يمشي على هواه، مع أن المفروض ألا يكون لنا إلا هوى واحد؛ هوى حبيب الله ومصطفاة
(لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ )(1)
لماذا نختلف إذن؟، لأن كل واحد له هوى لكن لو عشقنا جميعاً الهوى، وهو الدوا، وهو حبيب الله أكمل مرسل، وفُتنا بأخلاقه، وتجمَّلنا بأحواله، هل نختلف؟، لن نختلف!، لأن الهوى واحد، والمنهج واحد، والقصد واحد.
ما اختلاف الطريق والقصد واحد والصــــــــراط السويُّ للمتواجد
فكما قال الكرام رَضِيَ الله عنهم وأرضاهم:
خالف الهوى وحاذر إن تولِّيه إن الهوى ما تولَّى يُصِم أو يَصَمِ
وما على المريد في البداية، إلا أن يجاهد، حتى يفتحوا له باب الذوق السليم، فيأتي له الإلهام المباشر من النبي الكريم، بعد ذلك سيمشي على الصراط المستقيم، وإذا حدث له زلل؛ سيجد أن النبي صلَّى الله عليه وسلم يأخذ بيده، لأنه على السبيل القويم، قال صلَّى الله عليه وسلم فى معنى الحديث الشريف:
المُؤمِنُ في يَمِينِ الله، كُلَّمَا وَقَعَ أَقَامَه
لكن من يمشي على هواه ؛ فليس بتابع لي. إذن، من هو المحسوب عليَّ ، من هو معي في الفصل، وأدرس له.
لكن الرجل الذي يأتي بكتاب من هنا، وكتاب من هناك، ويذاكر فيهم، فلا لي شأن به ، لأنه ليس معي في المنهج. ومعي في المنهج: يعني معي في القصد، لأنه لن يوجد من يريد الدنيا والآخرة معاً، وإذا أراد أحدهم الآخرة فقط؛ يجد أن الله يأتي له بالدنيا، رغم أنه لا يطلبها، وإذا أراد آخر الدنيا،فـلا شأن له بالآخرة.
لأن هذا طريق، وهذا طريق آخر، وقد قال الله للدنيا:
( يَا دُنْيَا، اخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي يَا دُنْيَا مَنْ خَدَمَكِ )(2)
وقد اشتهر بين الناس الأثر القائل:
( يا دنيا، من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه )
وهذه حكمة الله إذن يلزم أن يكون القصد واحد، لكي يكون المنهج واحد، وهذا أحرص ما يحرص عليه المريد.
ولذلك فإن سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عندما كان يرى المريدين .... رأى من يطيلون في الصلاة، وفي العبادات، وهم كرؤوس وأصول الخوارج؛ فقال عليه الصلاة والسلام فيما معناه:(إن العبْدَ ليُرْفَعُ لهُ من العَمَل ما بيْن السَّماءِ والأرضِ، ولا يَزِنُ عند الله جَنَاحَ بَعُوضَة ). وفى الحديث الآخر: ( وإِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ
وفى رواية : الطَّويل يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ((3)
وذلك لأنه يعمل هذه الأعمال، ويرى نفسه فيها، أنه عمل، وأنه ماهـر، ولم يعمل مثل عمله أحد وماذا عمل بغير الله؟
هل يستطيع أحدٌ أن يعمل أي عمل بغير معونة الله وتوفيقه عزَّ وجلَّ يا إخواني؟أنا مثلاً: أتكلم الآن، لكن لو أن الخط الذي يصلني منه مدد الله تعطَّل، كيف أتكلم؟، وهل أستطيع أن أصلح الخط مرَّة أخرى؟ أبداً
ولكنه كلُّه بتوفيق الله ومعونة الله عزَّ وجلَّ .
1))عن ابن عمرو رَضِيَ الله عنهما فى مشكاة المصابيح وفتح الباري.
(2)مسند الشهاب القضاعى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلدُّنْيَا ..( الحديث ) .
(3)عن أبى هريرة ، متفق عليه ، وفيه بقية ( .. وَقَالَ : اقْرَءُوا ، (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا )
من كتاب {إشراقات الإسراء الجزء الثاني}