محطة المنتهــــى
ظهيرة شتوية دافئة ، السماء كئيبة ، متجهمة تكاد تذرف . الشارع طويـــل ، طرفه الشمالي منحدرٌ بعيد ، تحده حافة بحر ساكن .
تحت مظلة آخر محطة للحافلات ، كانت سراب تقف بين الواقفين ، ترقب بكل عناية عيون المارة و خاصة من الرجال . تروح و تجيء أحيانا ، قلق بارز يلهو بسكينة ملامحها كل حين ، إذ لا يلبث أن يجعل من زفرة اليأس تنبجس من صميم فؤاد منكسر .
كانت تبدو لمن حولها و كأنها على استعجال من قدوم الحافلة ، لكن ، حافلات شتى أقلعت و لم تركب ، و أخريات قادمات و لن تفعل أيضا .
هي لا تنتظر الأوتوبيس ، بل الفرس المجنح الأبيض ، هي على موعد مع فارس أحلامها الافتراضيّ .. في نفس المكان و الزمان .
ذلك المعطف الكستنائيّ الفاتح الذي يلفّ بدنها الضامر ، ذلك المنديل الأصفر التبنيّ الذي تقارب صفرته صفرة وجهها الترابيّ ، هما العلامة الوحيدة التي تمكّن فارس الأحلام من تمييزها من بين الحشود المنتظرة .
هي لا تعرف شكله ، و هو أيضا لم تـُتح له الفرصة لإلقاء نظرة عابرة على مظهرها ، رغم مرور سنة على تعارفهما على النيت . أو بالأحرى ، على ذلك المنوال اِتفقا منذ بداية العلاقة .. على أن تبقى الهوية و الخصوصيات في خانة التحفظ إلى أجل مسمى .
سراب ، هو إسمها المستعار ، طوال عواصف سنواتها الثلاثين ، لكم راودها الحنين إلى نشوة ربيع زهرته يبللها الرحيق ، لكم تضرعت بين يدي الخالق على أن يبدد عنها سحابة الشؤم ، مثلما الرياح في العلياء تبدد كتل الغيم .
قبل سنوات ، كثيرون هم من تقدموا لخطبتها ، و كثيرون هم أيضا من أطلقوا لخطبتها بدل الزغاريد ، صفيرا لا يختلف عن نعيق الأبوام .. فيعود الطارق من حيث أتى ، إذ لا تلبث الفتاة أن تجد نفسها مرة أخرى تصارع النحس في بركة تغمرها الأوحال ، ثم جاهدة تطلع منها كما الشبح المنبثق من دهاليز الموت .
بعد شتى التجارب الحميمة التي باءت بالفشل ، اِختارتِ الفتاة بوابة الوهم بعد خذلان اليقين . على الفايسبوك ربطت علاقة من نوع آخر غير معهود ، علاقة مع شخص ما مناجاته اليومية الدافئة دحرت عنها نكبات عتيق الأيام ، شخصيته الهادئة إنما تنم عن رجل متزن و رزين .
أثناء هذه العلاقة تمكنت سراب من اِسترجاع اسقرارها المفقود ، خيل إليها أنها حقا تقع في حبّ رجل يختلف عن الآخرين ، لم لا ، و آخر مرة قبل تحديد موعد لقاء المحطة ، كتب لها مناجيا على النيت يقول :
" ألا يا حبا بات في الفؤاد نخلة رافلة تعلو و تسمو ..!
عندما يأتي المساء ، تقذفني الغبراء و يقلني السحاب ، يدحرني اليقين و يعانقني السراب .. ما من غدير هنا ينعش ضمأ السنين العجاف ، سوى أن الأثير ، قد أتى بك عبر الدبدبات متوجة برذاذ السلسبيل ، و رحيق العبير ، يا من السحر ينساب من يراعها وعلى الأفئدة يرسو ، يا من البسمـة من ثغرها تخترق الأثير ، و على شاشة الحبــيب تطفو .
ألا يا حبا زهرته أينعت في بيداء تشتعل ..!
عندما يأتي المساء ، من وراء شاشة البلور نبضات القلب تخفق ، يراودها الحنين إليك ، فتناجي المغيب . و العصفورة من وراء سرب الأطيار تسعى ، صوب دفئ رتيب ، و وصال يطيب .. يا من أخالها شقراء من ذوات العين الزرقاء ، يا من رسمتُ لها صورة من ذوات الخدّ المحتقن بلون الشفق ، معتدلة القدّ رشيقة البدن ، كما الظبي الصبوح بين مروج الدّغل .
ألا يا حبا في القلب لن يندثــــر ..!
يوم تلمحك العين سوف تسمو ثقتها بالعقل ، حيث يكون قد أفلح في تشخيص شخصك و شخصيتك قبل رؤياك ، و حتى و إن أخطأ في ذلك حبيبتي ، فوعــدٌ آخر مني يعدك ، أن العهد القائم بيننا لن ينكســـــر . "
لا زالت سراب في انتظار فارسها في محطة المنتهى ، جبينها بدأ يتفصد عرقا خوفا من عدم قدوم الحبيب ، لكن هاجسا في الأعماق راح يردد لها كل حين :
" يا بنية ..! ما دام في العمر بقية ، فلتتركي للرجاء مكانة في الروح شاسعــــة ، و لتحجزي للأمل مرتبة في القلب واسعة . "
في هذه اللحظة من بعد الظهيرة ، قليلون هم من ينتظرون قدوم الحافلة ، ليس هناك إلا شيخا عجوزا بقامة محنية و نظارات مربعة ، يجلس على أريكة الانتظار متصفحا جريدته ، و إلى جانبه بضع فتيات يرتدين زيّ المدارس .
فجأة ظهر على الساحة رجل كهل أنيق ، يكاد لا يتجاوز عقده الخامس .
غير بعيد عن سراب ، وقف عن يمينها تحت مظلة المحطة ، اهتز قلبها لرؤيته ، ملامحها تغيرت وأصابعها تشابكت ، رغم ذلك راحت تسترق النظرة تلو الأخرى ، لكنّ الرجل راح يحوم بنظراته حولها فقط ، دون أن ينبس ببنت شفة .
شاب آخر قوي البنية أسمر البشرة ، دنا ليقف بدوره إلى جانبها الأيسر ، من خلال ملامحه ، يبدو مترددا و كأنه يريد محادثتها في شيء ، التبس الأمر على الفتاة ، باتت هذه المرة تختلس النظر يمنة و يسرة ، لم تعد تدر أي التصرفات تليق بموقفها الحرج هذا ..." - رباه !! يا لهذه الغلطة الفادحة ! كان عليه أن يعطيني علامته الخاصة به ، فأميزه من بين الحشود بدل أن أفعل ذلك .."
في محاولة منها لتجاوز المحنة ، أشاحت بوجهها عن الطرفين .
قررت سراب أن تغادر المكان ، لكن ، سيارة حمراء وقفت عند أقدامها ، نزل منها شاب وسيم في مثل عمرها ، تطفح الابتسامة من على محاياه .
بوجه بشوش خاطبها : " من فضلك سيدتي الجميلة ، هلا دللتني على مدرسة الحجاج بن يوسف ..؟ "
نظرت إليه بنظرة لا تخلو من توتر فقالت : " ليت حجاجك هذا لا يقطف آخر زهرة تينـــع في بستاني .."
قال مبتسما كمن يعرفها منذ زمن : " سألتك فلم تجيبي ، فكري جيدا ، أحقا تريدين مني الرحيل ؟ "
حدقت في عينيه برهة ، ثم ساورها الشك في أن يكون الواقف هو فـــارس أحلامها ، تقدمت منه قليلا ، و بنبرة الترجي همست لـه : " أرجوك أدخل في صلب الموضوع ، انا في عجلة من أمري ، يجب أن أعود للتو إلى المنزل "
رد الفتى مبتهجا : " حسنا جميلتي ، تكفيـكِ مئتي درهم مقابل علاقة طفيفة . "
أواااه ..! اِستشاطت الفتاة غضبا ، اِرتعدت أوصالها لفظاعة ما سمعته ، رغبة منها في دحر أجيج الغضب المتصاعد ، صفعته بكل قواها على خده ..
حاول بدوره أن يصفعها لولا تدخل الكهل الأنيق و الشاب الأسمر اللذان كانا يقفان بمحاذاتها ، و حتى العجوز المسكين قام بدوره من على الأريكة ملوحا بعصاه تجاه المعتدي ، بل أمسك بيد الفتاة الباكية ليجلسها على الأريكة ، مدّ لها منديلا ورقيا مواسيا إياها قائلا : كفاكِ بكاء يا صغيرتي ، فلتتركي الكآبة للغيوم الداكنة "
كعادتها كل مساء جلست سراب على النيت رغبة في الاتصال بفارسها ، لم تجد هناك غير رسالة قصيرة كتبها للتوّ يقول فيها :
" كفاكِ بكاء يا صغيرتي ! فلتتركي الكآبة للغيوم الداكنة ! خوفي من لقياك كان في محله ، و إلا لكانتِ الصفعة من نصيبي . أرملٌ وحيد يضنيه الخريف ، أبت نفسه إلا أن تموت بين أحضان الربيع .. لكِ قلبي ، لكِ عمري ، لكِ متاعي ، و لك الاختيار. أما أنا ، فقصدي شريف ، و على العهد القائم بيننا محافظ غير ناكث ."
[right][justify]