الموت هو أحد المفاهيم الأساسيّة التي تتحدى الإنسان. ومحاولة تفسير الموت توجد في كلّ الديانات وحتى الوثنيّة وقد يكون سبب الموت هو السؤال الأول الذي خطر على بال الإنسان وذلك قبل محاولة فهم بقية الظواهر الكونيّة والإنسانيّة. فمن المؤكد أن طقوس الموت توجد في كلّ الثقافات مهما كانت بدائيتها، بل والأمر الأكثر من ذلك أننا كشفنا وجود طقوس للموت عند النياندرتاليين وهم المجموعة الإنسانيّة التي سبقت ظهور الإنسان العاقل والتي يظن العديد من الباحثين بعدم وجود مقدرة لغويّة مميزة بين أفرادها. فإذا كان عدم وجود مقدرة لغويّة مميزة حقيقةً فتكون فعلاً قضية الموت هي القضية الأولى التي شغلت بال الإنسان وذلك حتى قبل قدرته على التخاطب الدقيق وتبادل المعلومات وتطوير الأفكار والديانات.
مع تطور العلوم بدأ الإنسان باكتشاف ومعرفة أسباب العديد من الظواهر الطبيعيّة التي لم يفهمها واخترع قصصاً لها، فعرفنا سبب الرعد والبرق، وعرفنا سبب الكسوف والخسوف، وعرفنا سبب العديد من الأمراض والظواهر المرافقة لها (الحمى، الألم، وغيرهما). ولكن مع تطور العلوم البيولوجيّة واكتشاف نظريات التطور و الوراثة والبيولوجيا الجزيئيّة بقي الموت عصياُ عن التفسير، وفقط في السنوات العشرة الأخيرة بدأت تتضح بعض المعالم عن طريقة تطور الموت وأصبح لدينا تفسير مقبول للموت. وهذا التفسير ينتظره حتماً عدد آخر من الاكتشافات لكي يصبح تاماً ولكن معالم الصورة العامّة بدأت تتضح وسأشرحها في المقال التالي:
أنماط الموت:
في موت الكائنات متعددة الخلايا هناك مازالت حتى الآن مرحلتين مميزتين هما:
-الموت السريري: وهو حالة الموت المعروفة، وهي حين توقف العضويّة ككل وبشكل غير قابل للعكس عن العمل الوظيفي الطبيعي. وقد تباينت معايير هذا الموت مع تطور الزمن فقد كان يعرف بأنّه يحدث حين توقف القلب عن العمل، أمّا الآن فقد أصبح التعريف هو الموت الدماغي (متى توقف الدماغ عن العمل).
-الموت الخلوي: ويحدث بعد دقائق- ساعات (تتباين المدّة حسب العضو) من الموت السريري، وفيه تبدأ الخلايا بالموت ويتلوها عمل الجراثيم والتحلل. هذا الفارق بين نمطيّ الموت أصبح حديثاً، وبسبب تطوّر الطب، يشكل مشكلةً بالنسبة للكثير من أطباء الإنعاش والقلب وحتى أهل المرضى. فمثلاً بعد حدوث رض رأس شديد وموت الدماغ، أو حدوث نزف دماغي شديد وموت الدماغ، وحدوث الموت السريري، يمكن دعم استمرار عمل الجسم بالأجهزة وبالتالي يمكن إيقاف ومنع حدوث الموت الخلوي، ويمكن البقاء لسنوات على هذه الحالة بدون أيّ أمل لهذا الشخص بأن يعود للحياة.
هناك تقسيم آخر للموت حسب سببه:
-الموت العرضي أو الحدثي : وهو الموت الناجم عن حدث ما، مثل نقص المواد المغذيّة، أو التعرض لمواد سامّة، أو الالتهام من كائن آخر أو العدوى بجرثوم أو ... وهو يشاهد في كلّ الكائنات الحيّة ولا مجال للحديث عنه أو للوقاية منه.
-الموت المبرمج : أو الموت المترافق مع عمليات الشيخوخة، وهو يعني الموت بآليّات داخليّة وهو سبب معظم حالات الموت عند الإنسان المعاصر.
أصل الموت:
يرجع أصل الموت إلى بداية تطور الكائنات متعددة الخلايا وقد ساهمت عدة آليّات في ظهوره، والمقصود بالدارسة هنا هو الموت المبرمج وهنا نلاحظ أيضا وجود آليتان تفسرّ إحداهما الموت الخلوي والثانية تفسرّ الموت العضوي. الموت الخلوي المبرمج - دور الجنس:
وهو أمر لوحظ حديثاً، فقد كُشِفت منذ حوالي عشرة سنوات جينات الموت المبرمج (أو موّرثات الانتحار الخلوي). فمن المعروف وجود موّرثات في كلّ خلية. هذه المورثات إذا تمّ تشغيلها تموت الخليّة بسرعة. هذه الموّرثات تطوّرت لتلعب أيضا دوراً هاماً في ضبط الخلايا المفردة للجسم وبالطبع لها أيضاً دور في مواجهة السرطان.
في تطور هذا النمط من الموت لعب الجنس دوراً هاماً.
المقصود بالجنس هنا التزاوج الجنسي الذي ينجم عن التحام الخلايا الذكريّة بالخلايا الأنثويّة وليس مجرد تبادل المعلومات الوراثيّة الذي يلاحظ حتى في الكائنات أحاديّة الخلايا.
فالكائنات الأولى وفي سياق تغيرات موسميّة غير مناسبة خضعت لضغوط كثيرة. هذه الكائنات كانت تمتلك القدرة على ابتلاع غيرها من الكائنات وقد نجح البعض، وفي بعض الأحيان تشكل كائن شاذّ يحوي خلايا جينات من الفردين. هذه الجينات منحت هذا الكائن صفات إضافيّة مكّنت بعض هذه الهجن من البقاء. ومع عودة الظروف للطبيعية تم انتخاب (اصطفاء) بعض من هذه الكائنات للبقاء، والكائنات التي تمّ اصطفائها هي التي تتمتع بالقدرة على استعادة هويتها الطبيعيّة، أي الكائنات التي تستطيع التخلص من نصف البقايا الخلويّة. ومن هنا نشأ الموت الخلوي وتطوّرت مورثات الموت الخلوي المبرمج. هذه الموّرثات قد عزلت الآن، وإضافتها إلى خلايا مستزرعة في مختبر يؤدي لموت هذه الخلايا خلال ساعات.
وهكذا بقيت واستمرت أسلاف الكائنات التي اندمجت وفي حين زالت الكائنات التي تجنبت الارتباطات الجنسيّة.
ومع تكرر فصول الجفاف أو فصول البرد فإنّ الأفراد التي انهمكت في الاندماج الجنسي، ثمّ التخلص من آثار الاندماج - بموت الجينات والخلايا الزائدة - ، بقيت لتصبح أسلافنا.
وهكذا أصبح الاندماج الناجم عن التهام الكائنات الحيّة لبنات جنسها، ثمّ إحباطه بالموت المبرمج، مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالبقاء الموسمي وبالفرديّة وتطوّر الموت الخلوي.
وحتى الآن فإنّ تشكل الأجنّة يستلزم حركة الخلايا، واندماجها، وتفاعل بعضها مع بعضها البعض، وموت بعضها بشكل مبرمج.