الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وبعد :
فإن الله تعإلىميز هذه الأمة (أمة الإسلام) بالوسطية بين الأمم فقال سبحانه وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة : 143] ، والوسطية هنا تعني : العدل والخيار وسائر أنواع الفضل ، فهي أفضل الأمم .
ثم ميز الله أهل السنة والجماعة بالوسطية بين فرق المسلمين ، فقال صلى الله عليه وسلم لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ . . . الحديث .
فأهل السنة هم في جملتهم (العدول الخيار) أهل التوسط والاعتدال في كل أمور الدين : عقيدة وعلما وعملا وأخلاقا ومواقف . وسط بين الغلو والتقصير وبين التفريط والإفراط في سائر الأمور .
وسأتحدث في هذه المقالة عن مفهوم الوسطية والاعتدال في اللغة والاصطلاح ، وهو موضوع الفرع الأول من المحور الأول في ندوة ( أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو ) .
مفهوم الوسطية والاعتدال :
أ - مفهوم الاعتدال : الاعتدال لغة : قال في القاموس المحيط : ( العدل : ضد الجور ، وما قام في النفس أنه مستقيم ) ، و( عدل الحكم تعديلا : أقامه ، و( عدل ) فلانا : زكّاه ، و( عدل ) الميزان ( سواه ) ، و( الاعتدال توسط حال بين حالين في كم أو كيف ، وكل ما تناسب فقد اعتدل ، وكل ما أقمته فقد عدَلته وعدّلته ) ، والعدول : هم الخيار .
وذكر في القاموس المحيط : من معاني العدل والاعتدال : الحكم بالعدل ، والاستقامة ، والتقويم ، والتسوية ، والمماثلة ، والموازنة ، والتزكية ، والمساواة ، والإنصاف ، والتوسط .
أما اصطلاحا فالاعتدال : هو التزام المنهج العدل الأقوم ، والحق الذي هو وسط بين الغلو والتنطع ، وبين التفريط والتقصير ، فالاعتدال والاستقامة وسط بين طرفين هما : الإفراط والتفريط .
والاعتدال هو : الاستقامة والتزكية ، والتوسط والخيرية .
فالاعتدال يرادف الوسطية التي ميز الله بها هذه الأمة ، قال تعإلىوَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ .
وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بقوله : ( والوسط : العدل ) ، ومن معاني العدل والوسط : الخيار .
ولا يتحقق الاعتدال في الاعتقاد والعمل والعلم والدعوة وغيرهما إلا بالتزام الكتاب والسنة وسبيل المؤمنين .
ب - مفهوم الوسطية : الوسطية في اللغة : قال في المعجم الوسيط الصحيح :
( وسط ) الشيء - ( يسطه ) وسطا ، وسِطة : صار في وسطه ويقال : وسط القوم ، ووسط المكان . فهو واسط . و - القوم ، وفيهم وساطة : توسط بينهم بالحق والعدل .
( وسُط ) الرجل - ( يوسُط ) وساطة ، وسِطة : صار شريفا وحسيبا . فهو وسيط .
( أوسط ) القومَ : صار في وسطهم .
( توسط ) فلان : أخذ الوسط بين الجيد والرديء . و - بينهم : وسط فيهم بالحق والعدل . و- الشيءَ : صار في وسطه . يقال : توسط القومَ .
( الأوسط ) : المعتدل من كل شيء ، وأوسط الشيء : ما بين طرفيه . وهو من أوسط قومه : من خيارهم .
( الوسَط ) وسط الشيء : ما بين طرفيه ، وهو منه . والمعتدل من كل شيء . يقال : شيء وسط : بين الجيد والرديء . وما يكتنفه أطرافه ولو من غير تساو . والعدل . والخير : ( يوصف به المفرد وغيره ) . وفي التنزيل العزيز : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا : عدولا أو خيارا . وهو من وسط قومه : من خيارهم .
والصلاة الوسطى : العصر ، لتوسطها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ، وقيل الصلاة الوسطى : الفضلى ، وفسرها بعضهم بالجمعة . ( ج ) وُسَط .
(الوَسوط) : المتوسط . وبيت من بيوت الشَّعْر أكبر من المظلة وأصغر من الخباء أو هو أصغرها . ( ج ) وسط .
الوُسوط : وُسوط الشمس ، توسطها السماء .
( الوسيط ) : المتوسط بين المتخاصمين ، و- المتوسط بين المتبايعين أو المتعاملين . و- المعتدل بين شيئين . وهي وسيطة . ( ج ) وسطاء ، ويقال هو وسيط فيهم : أوسطهم نسبا وأرفعهم مجدا .
فالوسطية تأتي بمعنى : التوسط بين شيئين ، وبمعنى العدل ، والخيار ، والأجود ، والأفضل ، وما بين الجيد والرديء ، والمعتدل ، وبمعنى الحسب والشرف .
ونجد أهل السنة والسلف الصالح - بحمد الله - تحققت فيهم هذه المعاني الفاضلة ، كما سيأتي بيانه .
الوسطية في الشرع والاصطلاح : وردت الوسطية في القرآن الكريم في أكثر من آية وفي السنة في أكثر من حديث على المعاني التالية :
( 1 ) بمعنى العدل والخيرية والتوسط بين الإفراط والتفريط ، ومن ذلك قوله عز وجل وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي ، عدلا [ سورة البقرة - آية 143 ] . وبهذا المعنى فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري فقال : ( الوسط : العدل ) ( صحيح البخاري ك التفسير ح 4487 ) .
( 2 ) وفسرها ابن جرير الطبري ( 3 / 242 ) بمعنى التوسط بين الإفراط والتفريط .
( 3 ) وكذلك ابن كثير ( 1 / 275 ) فسرها : بالخيار الأجود .
( 4 ) وتأتي الوسطية في السنة كذلك بمعنى الأوسط والأعلى كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الفردوس بأنه أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ - [ البخاري ك الجهاد ح 2790 ] .
( 5 ) ويأتي معنى الوسطية على اعتبار الشيء بين الجيد والرديء ، كما قال ابن عباس - في رواية عنه - كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا دُونًا ، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ ، فَقَالَ اللَّهُ : مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [ المائدة : 89 ] . الْخُبْزِ وَالزَّيْتِ .
( 6 ) وفسر بعضهم : ( أوسط ) في الآية بأنه : الأعدل والأمثل ، فتكون الآية على هذا التفسير مندرجة تحت المعنى الأول الذي هو ( العدالة والخيار والأجود ) .
( 7 ) كما تأتي الوسطية بمعنى : ما بين طرفي الشيء وحافتيه .
ومن ذلك قوله تعإلى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [ البقرة : 238 ] ، والصلاة الوسطى صلاة العصر ، وسميت الوسطى ؛ لأن قبلها صلاتين ، على اختلاف في تحديد أي الصلوات هي .
ومن ذلك ما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا مُرَبَّعًا ، وَخَطًّا وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ ، وَخُطُوطًا إِلَى جَانِبِ الْخَطِّ الَّذِي وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ ، وَخَطًّا خَارِجًا مِنَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ ، وَقَالَ : أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : هَذَا الْإِنْسَانُ الْخَطُّ الْأَوْسَطُ ، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ إِلَى جَانِبِهِ الْأَعْرَاضُ تَنْهَشُهُ .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : وَسِّطُوا الْإِمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَلَ .
( 8 ) وتأتي الوسطية بمعنى التوسط الظرفي . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ ، ضعفه الألباني : ضعيف سنن أبي داود ( 393 ) .
وتأتي الوسطية مقابل :
الغلو : وهو مجاوزة الحد . قال تعإلى: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [ النساء : 171 ، المائدة : 77 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ .
- والإفراط : وهو بمعنى الغلو ، وهو تجاوز القدر في الأمور .
- والتفريط : وهو بمعنى التقصير .
فمنهج أهل السنة وسط في ذلك بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة .
- والجفاء : خلاف البر والصلة . قال صلى الله عليه وسلم في حق القرآن : وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ . أي : لا تنقطعوا عن تلاوته .
فأهل السنة وسط بين جفاء الأعراب ، وتقعر العجم .
- والظلم : وهو مجاوزة الحق . ولذلك سمى الله الشرك ظلما إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان : 13 ] .
فأهل السنة هم الوسط في العدل والإنصاف . وعليه ؛ فالوسطية ، والاعتدال معنيان مترادفان في المفهوم اللغوي ، والشرعي الاصطلاحي ، فهما : العدل والاستقامة والخيرية والاعتدال والقصد والفضل والجودة .
فالاعتدال والوسطية منهج الحق ومنهج الأنبياء وأتباعهم ، ويتمثل ذلك بالإسلام بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبالسنة ، ومنهج السلف بعد ظهور الأهواء والافتراق ، فأهل السنة والجماعة هم العدول الأخيار في العقيدة والعبادة والأخلاق والمواقف .
هذا ، ونسأل الله أن يجعلنا من أهل الحق والعدل والاستقامة ، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى ، ويقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، والله حسبنا ونعم الوكيل .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .